كان الصيفُ ينسابُ كالنهر الهادئ بين تلال القرية، حيث الهواءُ نقِيٌّ كقلب طفل، والأرضُ تتنفَّسُ عطرًا بعدَ كلِّ قطرة مطر. هناك، في منزلي الصيفيِّ البسيط، انهمكتُ يومًا في غرسِ شتلاتٍ صغيرة من التفاح على حافةِ التُّصوينة المُطِلَّة على الطريق. كانت أصابعي تتعمَّقُ في التربةِ الرطبة، كأنها تُصلّي شكرًا للأرضِ التي لا تبخلُ علينا بخيرها.

النصيحة التي اهتزَّت لها روحي

......................................

فجأةً، اقتربَ منّي جاري الشيخُ "أبو علاء"، وقد غطَّى ظلُّ قبعتهِ العريضة وجهَه المُحفَّر بتجاعيدِ السنين. نظرَ إلى الشتلاتِ الصغيرة، ثم قالَ بصوتهِ الهادئ الذي يحملُ حكمةَ الأجداد:

لِمَ تزرعُ هنا يا بُني؟ هذه الأشجارُ إن كبُرت، لن تذوقَ ثمرتَها.. كلُّ عابرِ سبيلٍ سيمدُّ يدهُ إليها!

توقَّفتُ للحظة، وكأنَّ كلماتهُ دفعتني إلى أعماقِ نفسي. لم أكنُ أفكّرُ في الثمرِ يومَ غرستُها.. كنتُ أزرعُ لأنَّ قلبي يُحبُّ اخضرارَ الأرض، ويشتاقُ إلى ظلٍّ يُواربُ حرَّ الشمس عن عابري الطريق. لكنَّ كلامه أضاءَ في داخلي نيّةً جديدة:

"لِـيَكُنْ ثمرُها هِبَةً لكلِّ من يمرُّ مِن هنا.. فمن يشتهي، فليأخذْ بِسُخْرٍ!"

البركة التي لا تُفسِّرها قوانينُ الزراعة !

............................................

مرَّت الأيامُ، والأشجارُ الصغيرةُ بدأتْ تتمدَّدُ كأيادي طفلٍ ينمو. لكنَّ الغريبَ — والذي جعلَ أبا علاء يُحدِّقُ مليًّا — أنَّ أشجارَ الطريقِ هذه صارتْ أكثرَ غصونًا، وأوفرَ ثمرًا من أشجارِ البستانِ نفسِه! كان التفاحُ عليها أكبرَ حجمًا، وأحلى مذاقًا، وكأنَّ الأرضَ تُكافئُها على سرِّها الجميل.

ذاتَ مساء، بينما كنتُ أراقبُ غروبَ الشمسِ الذي يصبغُ الثمارَ بلونِ العسل، رأيتُ امرأةً عجوزًا تقفُ تحتَ إحدى الأشجار. مدَّت يدها بخشوعٍ، ثم التقطتْ تفاحةً، وأخذتْ تقضمُها بابتسامةٍ طفوليّة. في تلك اللحظة، فهمتُ سِرَّ البركةِ التي لا تُرى:

إنَّ الرزقَ الذي لا يُحاطُ بسياجِ الأنا، يُباركُ له اللهُ في العطاءِ والنماء!

درسٌ من الأرض

....................

اليوم، بعدَ سنوات، صارتْ تلك الأشجارُ علامةً في القرية. يأتيها الناسُ من كلِّ حدبٍ، لا ليجنوا ثمرَها فقط، بل ليتعلّموا من دروسِها الصامتة. وأنا، كلَّما رأيتُ طفلًا يقفزُ ليقطفَ تفاحةً، أو مسنًّا يستظلُّ بفيئها، أتذكَّرُ كلماتِ جاري القديمة.. وأبتسمُ لِنَيّتي التي حوَّلتْ نصيحتَه إلى نبوءةِ خيرٍ.

لعلَّ الحياةَ ليستْ سوى شجرةٍ نغرسُها بلا حساب، ثُمَّ نكتشفُ أنَّ جذورَها امتدَّتْ إلى السماء! 🌳 🌳