لا أتذكر كل تفاصيل الطفولة. بعضها محاها الخوف، وبعضها الآخر دفنته الأيام تحت ركام البيوت. لكن ما لا أنساه أبدًا هو تلك الليلة… ليلة سقط فيها صاروخ قريب من بيتنا، فارتجفت الجدران، واهتز قلبي كأني كنت أنا الهدف. كنت طفلة حينها، بالكاد أبلغ من العمر ١٠ سنوات. ولكن تلك اللحظة جعلتني أكبر عشرين سنة دفعة واحدة.

منذ ذلك الحين، لم تعد أصوات الانفجارات بعيدة. كانت تأتي كل ليلة، أحيانًا من الواقع، وأحيانًا من أحلامي. الحرب لا تتركك حين تنتهي. الحرب لا تعرف النهاية. تنتهي من الارض، لكنها تبقى في داخلك.

كبرت، لكني لم أتحرر. كلما سمعت صوتًا عاليًا، كنت أعود لتلك الطفلو المذعورة كلما رأيت غيمة غبار في الشارع، كنت أرى الحطام. كنت أرى وجوهًا لم تعد موجودة، وأسمع صراخًا لم يهدأ بعد في رأسي.

الكوابيس أصبحت ضيفًا دائمًا في لياليّ. أستيقظ مرعوبة، أتنفس بصعوبة، أبحث عن الضوء، كأني في كل مرة أهرب من تحت الأنقاض. ما أصعب أن تنام وأنت تخشى الحلم، وما أقسى أن تصحو وتكتشف أن الخوف لم يكن خيالًا، بل ذاكرة محفورة في قلبك.

الحرب تسرق من الأطفال أشياء لا يمكن استرجاعها. تسرق الأمان، والبسمة، وحتى الأحلام. تجعلنا نكبر على عجل، دون أن نعيش حقًا. نحمل في أجسادنا الصغيرة أوجاعًا أكبر من أعمارنا.

الحرب لا تأخذ فقط الأرواح، بل تأخذ البراءة. تأخذ القدرة على الشعور بالطمأنينة. تجعلنا نحمل حقيبة خوف في ظهورنا أينما ذهبنا، ننام ونحن نعدّ الطرقات إلى الملاجئ، ونصحو ونحن نحاول إقناع أنفسنا أن هذا اليوم قد يكون أكثر سلامًا.

من عاش الحرب طفلًا لا يكبر كما ينبغي. نحن نظل نحمل في داخلنا ذلك الطفل الذي ركض باكيًا، وتخبأ تحت الطاولة، وانتظر أن تنتهي الضربات. نكبر، نعم، لكن تبقى قلوبنا صغيرة، ضعيفة، تبحث عن حضن لم يكن موجودًا وقت الخطر.

إنها ليست فقط تجربة شخصية، بل وجع جيل بأكمله. جيل وُلد في النار، وكبر في الظل، وما زال حتى اليوم يبحث عن ضوء.