عندما كنا أطفالاً في المرحلة الابتدائية كان مدرّسونا يتوقّعون لنا كيف سيكون مستقبلنا بناءاً على مدى ذكائنا. أو للدقة بناءاً على مدى تجاوبنا معهم في حصصهم.

فمثلاً إذا عرضوا علينا سؤالاً في المادة التي يدرّسونها وطلبوا من واحدٍ منّا الإجابة فلم يوفّق وتكرر الأمر أخبروه (بقسوةٍ أحياناً) أن لا فائدة منك، وأنك ستعاني في حياتك لاحقاً عندما تكبر.. بل عندنا في بلادنا ذهب الأمر لأبعد من ذلك فترى مدرّساً يعمد إلى تلميذ لم يهبه الله ذكاءاً ولا فطنة وكان يُطلق عليه (البليد). يعمد إلى هذا التلميذ البليد فيذكّره مراراً بأنه لا مستقبل له، والمستقبل كله لهؤلاء التلاميذ (الشطّار). أما أنت أيها البليد (ابقى تعالى تفّ على قبري لو فلحت)!

نعم، مدرّس وهبه الله عِلماً وجعله مسؤولاً عن أطفال في مرحلة التكوين يتفوّه بهذا الكلام متعمّداً.

على الجانب الآخر يبالغون في مديح (الشطّار) النجباء، اللذين يذاكرون دروسهم بانتظام، يفعلون ما يؤمرون به، يسمعون الكلام، إلى غير ذلك من صفات "الأطفال الناجحين". يتوقّعون لهم مستقبلاً مشرقاً مليئاً بالتفوق والمكانة الرفيعة، والمناصب العالية، والسعادة الأبدية، والغنى الوفير!

___

تمرّ الأيام، ويُنهي كل واحد من هؤلاء الشطّار والبليدين تعليمهم ودراستهم وتجد العجب العجاب.

- هل تحقّقت فيهم نبوءة مدرّسيهم؟

- ماذا حلّ بذلك الطفل البليد الذي وُصف بالفشل، وأن بانتظاره مستقبل مُظلم، كئيب، لن يستطيع فيه تحقيق أية نجاحات ولا أن يجد وظيفة يتكسّب منها؟

- وماذا حصل لذلك الطفل الشاطر النجيب، الذي حاز إعجاب المدرّس وتنبأ له بالنجاح الباهر، والمستقبل المشرق؟

خطر في بالي عقدُ مقارنة حقيقية بنماذج واقعية ليست مُتخيّلة ممن كانوا معي في أولى مراحل التعليم.

فهذا فلان ابن فلان، يا الله كم تحمّل كثيراً من انتقادات المدرّسين، وسخريتهم منه ومن قلّة ذكاءه، وكم جعلوه أضحوكة الفصل! كم بشّروه بعذابٍ أليم ينتظره لمّا يكبر، وكم وكم...

إذا به الآن يعمل في مجال مُربح وربما يجني مالاً أضعاف ما يجنيه ذلك المدرّس الذي ما زال يدرّس للتلاميذ إلى وقتنا هذا!

والعكسُ حالُ ذاك الطفل الآخر الذي وُصف بالذكاء والشطارة إذا به في وضع مُزرٍ وحاله يصعب على الكافر كما يقولون، حياته كئيبة، مستقبله أسود لا يُرى ملامحه، بالكاد يتدبّر قوت يومه! لم ينفعه ذكاءه ولا مدح مدرّسيه في شيء!

ثم عُرض لي فلان آخر غبي بليد، وفلان مقابله ذكي شاطر، فإذا الغبي البليد يعيش عيشة الملك السعيد، وإذا الذكي الشاطر يعاني معاناة الكئود الخاسر.

ثم ثالثٌ ورابعٌ... ووجدتُ الغالب يقف في صف سعادة البليد وتعاسة الشاطر. وخابت تنبوءات مدرّسينا فينا!

وصدق النابغة الجعدي إذ يقول:

وَلاَ تَأمَنُوا الدَهرَ الخَؤُونَ فإِنَّهُ
عَلى كُلِّ حالٍ بِالوَرى يَتَقَلَّبُ

أو كما قال صالح بن عبد القدوس من شعراء العصر العباسي:

لا تَأْمَنِ الدَّهْرَ الصُّرُوفَ فإنَّهُ
لا زَالَ قِدْماً للرِّجَالِ يُهَذِّبُ   
وَكَذَلِكَ الأيَّامُ فِي غَدَوَاتِهَا
مَرَّتْ يُذَلُّ لَهَا الأعَزُّ الأنْجَبُ

نعم والله قد ذلّ لها الأعزّ الأنجَب!

___

مشكلة هذا التصور وتوقعّات هؤلاء المدرسين - غفر الله لنا ولهم - أنهم لم يعلّمونا لأنهم هم أنفسهم لا يعلمون أن الغباء والذكاء ليسا هما العاملَين الوحيدَين الذَين يحددان مستقبل التلميذ. بل هناك عوامل أخرى أكثر أهمية، أغفلوا بقلة فهمهم (تقلّب الدهر). لم يدركوا أن الأحوال تتبدّل، والظروف تتغيّر بتغيّر الأيام والأزمان. وأن لله في كونه سننٌ جارية على جميع من في الأرض.

ومن بديع ما قرأت في هذا المقام في تفسير الطبري لآية: 

يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ {الرحمن:29}

جاء في تفسير الطبري عن مجاهد، عن عبيد بن عمير: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. يجيب داعياً ويعطي سائلاً ويفك عانياً، ويتوب على قوم ويغفر... وعن منيب بن عبد الله الأزدي، عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فقلنا: يا رسول الله، وما ذلك الشأن؟ قال: يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع أقواماً ويضع آخرين.

يرفع أقواماً ويضع آخرين.. نعم.

أغفلوا أيضاً أن الأمر كله بيد الله

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران: 26]

فالذكاء والغباء لا قيمة لهما أمام مراد الله في خلقه وفي رزقه!

وأن النَفَس الطويل هي الاستراتيجية الصحيحة للتعامل مع الحياه، وليس التفوق الوقتي.

وفي هذا قول الشاعر علي الجهم:

لِلدَّهرِ إِدبارٌ وَإِقبالُ
وَكُلُّ حالٍ بَعدَها حالُ
وَصاحِبُ الأَيّامِ في غَفلَةٍ
وَلَيسَ لِلأَيّامِ إِغفالُ

إذا انقطع نَفَسك في منتصف الطريق فلن يرحمك الزمان، ولن تمهلك الأيام، بل يجب أن تواصل السعي والكدّ والتحصيل ومطاردة ما ترغب. وهذا ما ينصح به الشاعر في الأبيات التي تلت ذلك فيقول:

كَم أَبلَتِ الدُنيا وَكَم جَدَّدَت
مِنّا وَكَم تُبلي وَتَغتالُ
ما أَحسَنَ الصَبرَ وَلا سِيَّما
بِالحُرِّ إِن ضاقَت بِهِ الحالُ
يَشهَدُ أَعدائي بِأَنّي فَتىً
قَطّاعُ أَسبابٍ وَوَصّالُ
لا تَملِكُ الشِدَّةُ عَزمي وَلا
يُبطِرُني جاهٌ وَلا مالُ

كما أن حال العبد مع الله قد يكون العامل الأهم في كل ذلك، كان من الأولى للمدرّسين ولمن توّلوا مهمة توجيهنا ونحن أطفال إخبارنا بذلك بدلاً من اعتماد الذكاء والغباء، الشطارة والبلادة مناط كل شيء وعليهما يتحدد مستقبلنا وحياتنا أشقية هي أم سعيدة؟!

لو أخبرونا أن ننحّي ذكاءنا أو بلادتنا جانباً ونركّز على طاعة الله، أن نكون عباداً صالحين، طائعين، مستقيمين. وأن نجتهد قدر الإمكان كلٌ حسب ما وهبه الله من الذكاء والفهم بدون أن نكلّف أنفسنا ما لا نطيق، دون مقارنات، دون أن نكون نسخاً شبيهة ببعضها، الجميع أذكياء، الجميع نجباء، الجميع متفوقون!

اقرأ إن شئت:

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأنعام: 6]

أهلكناهم لأجل ذنوبهم لا لشيء آخر، كذلك الذكي الشاطر قد لا يوفّق في حياته بسبب ذنوبه وعدم استقامته، ولن ينفعه ذكاءه في شيء، والحل في عودته إلى ربه. والعكس بالنسبة للبليد قليل الفهم قد يتقّي الله في نفسه وفي أيامه فيفتح الله عليه من بركاته وفضله ما شاء.

وأختم مقالي بكلام من أوتي جوامع الكلم محمد صلى الله عليه وسلم، واختصر القصة في دعاء علّمنا إياه يقول فيه:

اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ

رابط التدوينة على مدونتي: