الموت ليس انقطاعًا مطلقًا، ولا هو محوٌ لما كان. إنه وجه آخر للحياة، باب يُفتح إلى أفقٍ جديد لا تدركه أعيننا ولا تلمسه حواسنا. أصعب ما في الموت ليس هو ذاته، بل الفراق. أن نفقد من نحب، أن يختفي صوتهم فجأة، فلا نسمعه عند المساء، ولا نراه عند الصباح. يبدأ حضورهم يتلاشى في التفاصيل اليومية؛ ملامحهم تبهت شيئًا فشيئًا، وأصواتهم تصبح همسًا بعيدًا في الذاكرة. هذا هو الألم الأعمق في الموت: الغياب.

لكن الحياة لا تتركنا في العدم. هي تمنحنا في ثنايا الألم فرصةً لخلق معنى جديد، لنسج صلة مختلفة مع من فقدناهم. ليس الهدف أن ننسى، بل أن نحوّل الألم إلى شيء أكبر من مجرد حزنٍ خامد. هنا يظهر فعل الإرادة: كيف نوظف هذا الألم في الإلهام؟

كأم فقدت ابنها، فانكسرت روحها كما ينكسر الزجاج. لكنها لم تستسلم للفراغ الذي تركه رحيله. وجدت في ألمها دافعًا لتأسيس مشروع لرعاية الأيتام، أو مساعدة أطفال فقدوا أهلهم. هناك، وسط هذه الأرواح الصغيرة، وجدت انعكاسًا من ابنها الراحل. كل ابتسامة منهم كانت كأنها امتداد لحياته، وكل يدٍ تمسك بها كانت تخفف عنها وطأة الغياب. صار ذكر ابنها خالدًا لا ينسى، لأن أثره تجسد في قلوب أخرى.

بهذا يتحول الموت من خسارة صامتة إلى فعل حياة ممتد. نصنع من الغياب حضورًا آخر، ومن الانكسار قوةً جديدة. لا شيء يعيد من رحل، لكن كل شيء فينا قادر أن يجعل ذكراه أعمق، وأكثر حياة مما كانت عليه صورته المادية.

إن توظيف الألم في الإلهام ليس سهلاً. هو فعل إرادي يحتاج إلى وقت، وصبر، ووعي. لكنه السبيل الوحيد لأن نظل أوفياء لمن فقدناهم، دون أن نظل أسرى للحزن. حين نختار أن نصنع من فقداننا رسالة، يصبح الألم أخف، وتصبح الذكرى حية نابضة في أعمالنا.

هكذا ندرك أن الموت ليس النهاية، بل تحوّلٌ خفي. وأن الذين رحلوا قد انتقلوا إلى صفحة أخرى من الوجود، بينما نحن نكمل في هذه الصفحة كتابة أثرهم معنا، نحفظ أسماءهم بأعمالنا، ونحوّل وجعنا إلى بساتين حياة تنبض باسمهم.