في مفارقة لافتة، قد يتحوّل التعليم — وهو الأداة التي يفترض بها أن تفتح آفاق التعلم — إلى عقبة صامتة تعوقه.

فالتعليم كما يُمارَس اليوم، لا يعني بالضرورة التعلّم. بل كثيرًا ما يُعيق نموه الطبيعي، ويكبله بنظام صارم من القواعد والمناهج والتقييمات، إلى الحد الذي يُغلق فيه أبواب الفضول، ويُقيد مسارات الاكتشاف.

فما الذي يمنعه التعليم التقليدي؟

وأي أنواع التعلم تُدفن تحت ركام الجداول والخطط والاختبارات؟

1. التعلّم القائم على التجربة... الذي يخشاه النظام

في الأنظمة التعليمية الصارمة، يُطلب من الطالب أن "يعرف الجواب" قبل أن "يخوض السؤال".

يُعلَّم أن الماء يغلي عند 100 درجة، دون أن يُمنح الوقت أو الفرصة لرؤية الماء وهو يغلي، أو أن يتساءل: لماذا؟

الخطأ ممنوع، والتجريب مهدّد للعلامة.

وهكذا يُقتل واحد من أهم أشكال التعلّم:

التعلّم من المحاولة والخطأ.

بينما في الحقيقة، هذا النوع من التعلّم هو ما يُبني الشخصية، ويُصقَل الفهم، ويُكسب المهارات الحقيقية.

2. التعلّم من الذات... الذي تغطيه الإجابات الجاهزة

كثير من مناهج التعليم تقدم المعارف في قوالب ثابتة، وكأن دور الطالب هو أن يكون "مستقبِلًا" لا متفاعلًا، و"ناسخًا" لا صانعًا.

في هذه الحالة، يُمنع التعلّم الذي ينشأ من الأسئلة الذاتية، ومن البحث الحر، ومن الفضول الطبيعي.

فتُصبح العملية التعليمية نوعًا من الإملاء الرسمي، لا علاقة له بما يشعر به الطالب أو يريد أن يعرفه.

وهكذا يُمنع التعلّم الذي يبدأ من الداخل…

لا من دفتر التمارين.

3. التعلّم الجماعي والتعاوني… الذي تهمشه النماذج الفردية

الاختبارات الفردية، الدرجات الشخصية، التنافس على المراتب الأولى… كلها عناصر تُرسّخ فكرة أن التعلم (سباق فردي لا مجال فيه للتعاون).

بينما في الحياة الواقعية، لا يُنجز العمل ولا تنجح المشاريع إلا من خلال (التعلّم الجماعي والتفكير التشاركي).

ومع ذلك، نرى أن كثيرًا من الفصول الدراسية تُقوّض فرص النقاش، وتُضعف المهارات الاجتماعية، وتُقلل من فرص التعلم من الزملاء.

وهكذا يمنع التعليم أحد أهم أشكال التعلّم:

التعلّم من الآخرين ومعهم.

4. التعلّم العاطفي والإنساني… الذي لا يُقاس بالدرجات

كم مرة سأل المعلم طالبًا:

"كيف تشعر اليوم؟"

أو:

"ما الذي أدهشك هذا الأسبوع؟"

في الأغلب، لا يحدث هذا.

لأن المنهج لا يحتوي على "أسئلة مشاعر"، ولا الامتحان يعطي علامة على "الدهشة" أو "الرحمة" أو "الخيال".

وهكذا، (يُهمّش التعلّم الذي يطوّر الإنسان لا فقط عقله)، ويتعلّق بالقيم، والتفهم، والتعاطف، والمرونة، والانضباط الذاتي.

بينما هي مهارات لا غنى عنها في كل ميدان من ميادين الحياة.

5. التعلّم البطيء والعميق… الذي لا يُناسب الجدول الزمني

في سباق المناهج، يُطلب من الطلاب أن "ينتهوا" من الكتاب في الوقت المحدد.

لكن لا أحد يسأل:

هل فهموا؟ هل ربطوا؟ هل تأملوا؟ هل عادوا ليتساءلوا؟

السرعة تُستبدل بالعمق، والحفظ يُستبدل بالاستيعاب.

فلا وقت للتأمل، ولا مجال للضياع الجميل في فكرة معقدة.

وهكذا يُمنع التعلّم الذي يتطلب وقتًا...

بينما التعلم الحقيقي نادرًا ما يحدث على عجل.

إذًا، ما الحل؟

الحل لا يكمن في إلغاء التعليم، بل في مراجعته بإخلاص.

أن نطرح بصدق هذا السؤال:

هل طريقتنا في التعليم تخدم التعلم، أم تمنعه؟

وأن نعيد بناء البيئة التعليمية بحيث:

تسمح بالتجريب والخطأ

تفتح الباب أمام الفضول الذاتي

تحتفي بالتعاون لا التنافس فقط

تُربّي المشاعر لا تهمّشها

تمنح الوقت لمن يحتاج أن يفهم ببطء

ختامًا: التعليم وسيلة... لا غاية

علينا أن نتذكر دائمًا أن التعليم ليس هدفًا بحد ذاته، بل (وسيلة لتحقيق التعلّم الأعمق، الأوسع، والأكثر إنسانية).

وإذا بدأنا نلاحظ أن هذه الوسيلة تحوّلت إلى حاجز…

فربما حان الوقت لتفكيك هذا الحاجز،

حتى لا نُنتج أجيالًا تعرف "ماذا تقول"، لكن لا تعرف "كيف تفكر، أو تتعلم، أو تتطور".