المنطق أساس الخلق، هو نظام التشغيل الافتراضي الذي الذي طُور فينا فامتلكنا صفة العقل باتباعه، ذلك يعني أنه طريقة التفكير السليمة التي تُتَّبع ويُؤخذ بها للوصول إلى استنتاج من أي معلومة كانت.

المنطق كأي شيء آخر، نراه يبدأ من قواعد بسيطة تعالج أشياء بسيطة مثلها، حتى ينتهي كآلة ضخمة متشعبة تقدر على معالجة أي شيء آخر. وعلى هذا فإن له صورتين أساسيتين تحكمان: صورة كلامية، وأخرى رمزية: الرياضيات.

صورة المنطق الكلامية أشبه ببدهيات في رأس كل منا، بدهيات نعالج بها كل شيء، بدءًا من استنتاجنا أن شخصًا ما يشعر بالحزن بعد أن قرأنا علامات وجهه، حتى استنتاج وجوب خالق لهذا الكون. المنطق الكلامي يعالج قضايا واضحة غير متعددة المدخلات، فيستنتج من مُدخلاتها معلومة جديدة قد تؤخذ كمُدخل آخر في قضية أكبر. ولا ريب أن تلك الصورة من المنطق هي الأساس في تفكير كل منا، حتى ولو لم يدرك الأمر.

الرياضيات هي المنطق مكتوبًا في رموز، هي تجريد للقواعد التي تُسيَّر عليها الخليقة، هي الهيكل الذي رُصَّت عليه لبنات هذا الكون.

يتضح هذا الأمر للرائي من جوانب كثيرة: تمشي الأرض في مسار على شكل قطع ناقص نتيجة للجاذبية، يمكن وصفه عن طريق الرياضيات، وقوع القلم على الأرض لا يمكن وصفه من خلال الجاذبية إلا بالرياضيات. شكل الكون لا يفهم إلا بالهندسة اللاإقليدية فرع الرياضيات. التفاضل والتكامل والهندسة التفاضلية والتنسور هي بعض من فروع الرياضيات التي تشكلت بها النظرية النسبية (نعم، فالنسبية ليست مجرد تلك الحقائق الـamazing الموصوفة في برامج البوب ساينس)، فمرور الوقت ببطء على الكيان رغم تسارعه عما حوله نتيجة تواجده في انحناء للزمكان كما في Interstellar ليس إلا ظاهرة يمكن استنتاجها بالرياضيات. أيضًا وصول الإشارة إلى الهاتف النقال يراعى فيها أمر تباطؤ الزمن هذا. معروف أيضًا أن الآلية التي تحكم الهاتف النقال وكافة أشكال الحواسيب عمومًا هي خليط من المنطق الرياضي وأنظمة العد وجبر بول وحسبات لامبدا وغيرها من فروع الرياضيات صعبة التهجئة، دونها لم تكن لتتواجد الذواكر والبيانات الرقمية والمعالجات وباقي العصابة. فالبيانات الرقمية مهما كان تعقيدها تكون مسطورةً في الحواسيب على هيئة مجموعة من الأرقام المكتوبة بالنظام الثنائي، والتي تتحول إلى إشارات كهربية تقرؤها المعالجات لتظهر أمامك كصورة سكارليت جوهانسون، أو فيلم نولن الجديد، أو أغنية لتايلور سويفت، أو حتى هذا المقال. الدوال الرياضية تُرسم بأشكال عدة درسها الجميع، لكن ربما يكون طريفًا ذلك معرفة أن رسوميات الألعاب ليست إلا تمثيلًا لدوال رياضية شديدة التعقيد وُضعت عليها بعض الألوان لكي تظهر بديعةً كالمعهود. اقتراحات اليوتيوب التي كثيرًا ما تصيب ليست إلا معالجة رياضية لسلوك الشخص عليه في الفترة الأخيرة، فلاتر سناب شات هي تحليل رياضي للصور يُمكِّن الآلة من معرفة مكان وجه الشخص وتحليله هندسيًا لتركيب أذني الكلب على رأسه. المعادلات التفاضلية وتحويلات لابلاس من فروع الرياضيات التي تعد أساسًا لعلم التحكم، ذلك الذي نقدر به أن نُسيِّر الآلات بدءًا من الساعة المائية، ومرورًا بالغسالة الكهربية وآلية ضبط درجات الحرارة وتغيير السرعة وصرف المياة فيها، وانتهاءًا بعملية إطلاق الصواريخ إلى الفضاء. في الحقيقة إطلاق الصواريخ يستلزم العديد من المعادلات الرياضية، منها التي تراعي مساره الصحيح لكي يهرب من الجاذبية الأرضية، وما تراعي استهلاكه للوقود، وغيرها الكثير. كانت الرياضيات عاملًا هامًا في الحرب العالمية الثانية، فمنها علم كامل يدعى علم التشفير استخدم في تشفير المعلومات المتناقلة أثناء الحرب مثل الأوامر وغيرها، وكان سببًا لتقدم ألمانيا النازية، لكن لم تلبث الشفرة إلا أن كُسرت بالرياضيات أيضًا على يد العالم ألان تيورنج، وهو ما قلب الموازين لصالح بريطانيا وشكل تاريخ العالم. علم التشفير أيضًا هو ما يحمي خصوصية الأفراد على الانترنت، ويحمي أموالهم في بطاقات الائتمان. في هذا الزمن قوام العالم ليس إلا الموارد ورأس المال، ودون علم الاقتصاد النابع من الرياضيات لكانت الأموال تروح وتجيء اعتباطًا كزمن قوافل طريق الحرير، فلا بنوك ولا بورصة، ولا شركات كبرى كجوجل وأمازون وغيرها. بواسطة الرياضيات يحدد المهندس هيكلة المبنى الفضلى التي تقدر على تحمل وزنه، فينتج لنا بعد معادلات تحاكي الزلازل وقوة الرياح وآثار المناخ مبنى كبرج خليفة. ليس غريبًا بعد هذا معرفة أن الرياضيات قادرة على التنبؤ بالطقس ونزول الأمطار، لكن الغريب هو معرفة كون الرياضيات هي أساس المتعة التي نستمدها من الموسيقى، فالنظرية الموسيقية قائمة على علم القياس، الرياضيات تحكم تلك العلاقات بين تدرج تردد ألحان الأوتار والمعازف لتكون أصواتًا مميزة حلوة تُرتب لتخرج بديعة تُلهب الآذان. السلوك البشري ليس سوى أنماطًا مكررة، وبيانات بتحليلها نقدر على استنتاج معلومات مفيدة وتنبؤات مجدية، وهذا ما حدث بالفعل على يد جون جوتمان، الذي وضع معادلة رياضية تحدد مصير الزواج من نجاح أو فشل بدقة تصل إلى ٩٤٪!

كل ما ذُكر بالأعلى ليس إلا غيض مختصر من فيض محيط المعرفة الإنسانية الشاسع، فأي بيانات باختلاف علومها، لا تُجرى مُعالجتها لاستخراج نتائج منها إلا بالرياضيات، ومن هنا تتضح الأهمية الكبرى لها، فللمعرفة شقين: بيانات جامدة تؤخذ بذاتها ولا يستنتج منها شيء آخر، كالتاريخ والأدب على سبيل المثال، وذلك الشق هو الأقل شيوعًا وإفادة. والآخر هو البيانات القابلة للتحليل واستنتاج المعلومات منها، وتلك لا سبيل لها إلا بالرياضيات في الغالب، أو المنطق الكلامي أحيانًا. فليست الفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها إلا ملاحظات تجريبية خام غير ذات إفادة، جرت عليها معالجة رياضية أو منطقية فشكلتها كعلوم تعد أساس التقدم الحضاري والتكنولوجي الذي نشهده اليوم. نعم، ليست العلوم إلا ملاحظات تجريبية عولجت بالرياضيات والمنطق، ليست العلوم إلا رياضيات وأشياء أخرى.

التعجب من كون الرياضيات مجردة إلى هذا الحد أشبه بالتعجب من عدم طلاء الأساسات الحديدية للمبنى وتزيينها. فالرياضيات هي أداة المعالجة التي يمكن تطويعها لكي تصلح لكل شيء، والأداة تُصنع لذاتها في بادئ الأمر قبل أن تُستخدم في أي شيء آخر، وتظهر قيمتها المادية حالما تظهر بيانات نقدر على معالجتها بتلك الأداة، حتى ولو كان ذلك بعد زمن. الرياضيات أشبه بالنصوص المقدسة، توجد قبل زمان طويل وتسبق عقول معاصريها فيُذهلوا عنها مسفهين لمناصريها، لكن تثبت لها الفائدة بعد ذلك فيسير مناصروها مرفوعي الرأس، عاملين بجد على تطويرها، لا لمواكبة تقدم العلوم، فالرياضيات تسبق العلوم بالفعل بسنين ضوئية. بل حبًا في مثاليتها وتجريديتها، وفي كونها لغة الرب.