تُرى ما الذي يجعل شرطي بسيط يقوم بصفع و اذلال طالب جامعي لم يفعل له شيئا؟ ، ما الذي يجعل رجال الأمن ينهالون بالضرب و الشتم على شباب مسالمين هم في مقام اخوتهم و ابناءهم ؟
كيف يقصف ذلك الطيار السوري قرية يعلم جيدا ان فيها أطفال ببساطة؟ هل الجيوش التي تقتل أهلها كلَّها بلا أخلاق؟هل يمكن أن يتنازل الإنسان عن اخلاقه لمجرد طاعة الأوامر؟ أم إنه شريك في الجريمة ومقتنع بما يفعل؟
أول من درس هذه الاشكالية دراسة علمية فلسفية هي الفيلسوفة السياسية اليهودية "حنة ارندت"، التي فرَّت من ألمانيا بعد أن تم اعتقالها و وضعها في معسكرات إبادة اليهود فهربت إلى فرنسا ، وبعد ذلك اعتقلت مجددا ثم هربت مرة اخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
في سنة 1961 ، قامت حنة ارندت بتغطية محاكمة ضابط القوات الخاصة النازية " ادولف ايخمان " و الذي كان مكلَّفا بنقل اليهود الى معسكرات الاعتقال اين يتم ابادتهم،. خلال محاكمته امامَ محكمة القدس قال" ايخمان" بانه يبغض تلك الجرائم ، لكنه كان فقط ينفذ الأوامر عندما كان يرسل اليهود في القطارات الى حتفهم ، و هو لا يعترف بأيِّ نية سيئة نحوهم بل كان يؤدي مسؤوليته فقط! حيث ورد في إحدى مداخلاته: “إنما أنا أحد الخيول التي كانت تجر العربة ولم نتمكن حينها من الميل باتجاه اليمين أو اليسار بسبب اصرار سائق العربة، لذا أنا لا أستشعر اي ندم بخصوص ما حصل"” .
في كتابها "إيخمان ﻓﻲ القدس...ﺘﻘرﻴر ﻋن ﺘﻔﺎﻫﺔ الشر " تقول حنة ارندت: "ايخمان ليس مجنونا و لا هو سادي او منحرف او شرير ، ولا يتميز عن غيره بشئ يذكر. هو ببساطة مرعبة انسان (عادي)!". إن حالة ايخمان ترينا بوضوح انَّ اعظم الشرور في العالم هي شرور يرتكبها اشخاص نَكِرات عاديون ، أشخاص ليس لديهم ايَّ دافع و لا قناعات و ليسوا سيئين ، و هذه الظاهرة هي ما تسميها الفيلسوفة "بتفاهة الشر" ( او اعتيادية الشر) اي أنَّ الانسان عندما يخضع لسلطة فوقية فإنه يصبح مجرد أداة أو ألة لا تملك الذكاء الذي يجعله يميز بين الشر والخير، ويصبح مستجيبًا بلا أدنى تفكير لهذه الأفعال الشنيعة كأنها فعل عادي! فالجندي الذي يقصف المدنيين يعتقد انه موضف عادي يقوم بواجبه مثل الموضف الذي يجمع الضرائب!
عالم النفس "ستانلي ملغرام" بحث ايضا في موضوع مدى (الخضوع والإنصياع للسلطة )، فقام سنة 1961 بتجربته النفسية الشهيرة و المثيرة للجدل، فقد جمع ثُلة من المتطوعين و أخبرهم انهم يشاركون في تجربة تختبِر تأثير العِقاب على الذاكرة و التعلم ،لكن الحقيقة انه كان يريد اختبار قدرة الاشخاص على مخالفة مبادئهم و اخلاقهم عند وضعهم تحت مصدر ظاهري للسلطة.
قبل بداية التجربة، أجرى المشرف قُرعة وهمية بين المشارك والممثل ( المتواطئ ) ، تؤدي دائمًا لنتيجة واحدة وهي أن يلعب المشارك دور المعلّم، ويلعب الممثل دور الطالب، حيث يمثل المشارك دور الأستاذ الذي سيختب الطالب في لعبة كلمات و يقوم بإيصال صعقة كهربائية عندما تكون الاجابة خاطئة ، ثم يزيد في قوة الصعقة ( ب 30. فولت) مع التصريح للطالب بقوة الكهرباء مع كل سؤال جديد ، الصعقة لم تكن مؤذية و ردة فعل الطالب بصراخ و البكاء كانت مسطنعة لكن النتائج كانت صادمة و رهيبة ، فحوالي 65%. من المتطوعين كانو مستعدين لإيصال صعقة كهربائية مميتة( 450. فولت) عندما تم تشجيعهم على ذلك من خلال ما اعتبروه شخصية ذات سلطة شرعية!
اكتشافات ميلغرام ارعبت العالم آن ذاك ، فقد اظهرت انه حتى المواطنين المحترمين. قادرين على ارتكاب افعال مخالفة لضمائرهم كما فعل الالمان تحت الحكم النازي، وكما تفعل الجيوش بشعوبها ، و قد علَّق ميلغرام على تلك النتائج بقوله "إن الاشخاص يشعرون بمسؤولية اقل عن افعالهم عند اتباعهم للأوامر من اشخاص آخرين سواءًا طُلِب منهم ان يفعلوا شر او خير، وأن المواطن عادي يمكن أن يسبب آلامًا لأشخاص قد لا يعرفهم، لسبب بسيط، وهو أنه يتلقى الأوامر من سلطة فوقية شرعية "و يضيف قائلا: "النتائج مقلقة للغاية فهي ترجح انَّ الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها لتبعِد الانسان عن القسوة و المعاملة اللاانسانية ، فعندما تتلقى الاوامر من طرف سلطة فاسدة نسبة كبيرة من الناس مستعدون لتنفيذ ما يؤمرون به دون اخذ طبيعة الامر بعين الاعتبار أو بدون حدود يفرضها الضمير مادامت الاوامر صادرة عن سلطة شرعية".
من جهة اخرى غالبا ما يتم تدريب الجنود و رجال الأمن في بيئة معزولة عن المجتمع ، و بعيدا عن المقبول اخلاقيا، ويتعلمون أن يفكروا بمفهوم “العدو” ويتشربون بحب مفهوم “الولاء”، والخوف الهائل من عصيان الأوامر.كما تركز المناهج العسكرية على تحطيم اية بقايا للتفرد و الذاتية ، فتتم برمجة الجنود تحت التدريب على أن يصبحوا عملاء لقضية أعلى، لا أن يفكروا تفكيراً حراً كأفراد .. وهنا يكمن احتمال قيامهم بأفعال بشعة و مجازر رهيبة .
إن الحقيقة المحزنة هي أن اغلب الشر يفعله أناس لم يتخذوا أبدا قرارًا لأن يكونون أخيارا أو أشرارا، اناس يفتقدون الى الصفة الأساسية المميزة للانسان و هي القدرة على التفكير و اصدار احكام اخلاقية ذاتية ، هذا العجز عن التفكير يحوَّلهم إلى مجرد وسيلة وأداة لتحقيق رغبات السلطة الفوقية.
التعليقات