" لماذا لا نثق بالسعادة؟ "
رغم أن السعادة تُعدُّ من أكثر المشاعر التي يسعى إليها الإنسان، فإن الكثيرين يعانون من عدم القدرة على الوثوق بها أو الاستمتاع بها بشكل كامل. قد يشعر البعض بالفرح للحظات، ثم يتسلل إلى داخلهم شعور غريب بالقلق أو الترقب، كما لو أن هناك خطبًا ما سيحدث.
في علم النفس السريري، يُعرف هذا النمط من التفكير باسم "القلق التوقعي" ، وهو حالة يشعر فيها الفرد بقلق مستمر من المستقبل، حتى في لحظات السكون والراحة. هذا النوع من القلق يجعل الشخص غير قادر على الاستمتاع باللحظة الراهنة، لأنه دائم الانشغال بما قد يُفسدها. فبدلًا من العيش في حالة رضا وطمأنينة، يدخل في دوامة من الحذر والترقّب. من الناحية العصبية، أظهرت الدراسات أن نشاط اللوزة الدماغية (Amygdala)، وهي الجزء المسؤول عن معالجة المشاعر المرتبطة بالخطر والتهديد، يكون مفرط النشاط لدى الأفراد القلقين، حتى في المواقف التي لا تحتوي على أي تهديد حقيقي. هذا النشاط الزائد يُفسر ميل البعض لتوقع حدوث الأسوأ حتى في اللحظات السعيدة.
بالإضافة إلى ذلك، تشير أبحاث علم النفس التطوري إلى أن الدماغ البشري مبرمج تطوريًا على ملاحظة التهديدات أكثر من ملاحظة الأمان أو الراحة، وذلك من أجل البقاء. فالإنسان القديم الذي كان يتوقّع الخطر ويتجنّبه، كان أكثر احتمالًا للبقاء على قيد الحياة من ذاك الذي يغرق في لحظات الاطمئنان. هذه البرمجة لا تزال قائمة في أدمغتنا الحديثة، حيث يُفسّر الكثير من علماء النفس سبب هيمنة المشاعر السلبية، مثل الخوف والقلق، على الساحة العاطفية مقارنة بالمشاعر الإيجابية مثل السعادة والفرح.
من زاوية أخرى، تلعب الخبرات الطفولية المبكرة دورًا كبيرًا في تشكيل علاقة الإنسان بالسعادة. فالطفل الذي نشأ في بيئة غير آمنة عاطفيًا، أو في منزلٍ يتقلّب بين العنف والهدوء، سيتعلم –دون وعي– أن الهدوء تسبقه العاصفة ، وأن اللحظات السعيدة قد تكون مقدّمة لألم لاحق. هذا النمط من الخبرة يُخزن في اللاوعي، ويظهر في الكبر على شكل قلق دائم من السعادة، وكأنها "طُعم" يُخفي وراءه شيئًا مهددًا. وفقًا لنظرية التعلّم الإشراطي لبافلوف، فإن الإنسان قد يربط بين تجربتين متعاقبتين، فإذا كانت السعادة في طفولته تتبعها دائمًا أحداث مؤلمة، فقد يُصبح الشعور بالسعادة نفسه محفزًا لقلق داخلي لاحقًا في حياته.
كما يطرح علماء النفس مفهوم الشعور بعدم الاستحقاق ، وهو إحساس عميق بأن الشخص لا يستحق المشاعر الإيجابية أو النجاحات أو الراحة. هذا الإحساس يتشكل غالبًا لدى الأفراد الذين تعرضوا لانتقادات متكررة، أو تربوا في بيئات تفتقر إلى التقدير والاحتواء. حين يشعر هؤلاء الأشخاص بالسعادة، قد تتسلل إليهم أفكار مثل: "هذا كثير عليّ"، أو "لن يدوم هذا طويلًا"، أو حتى "ربما أدفع ثمن هذا لاحقًا"، وهي أفكار تنبع من برمجة نفسية داخلية تربط بين الفرح والعقاب.
من منظور العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، فإن هذه الأنماط من التفكير تُصنف كـ "تشوهات معرفية" ، مثل التعميم الزائد، أو التفكير الكارثي، أو التصور الثنائي (كل شيء أو لا شيء). مثلًا، حين يقول الشخص لنفسه: "كل مرة أفرح، يحدث شيء سيء"، فإنه يخلق قاعدة ذهنية تُلغِي كل اللحظات السعيدة التي لم يتبعها ألم، ويركّز فقط على المرات القليلة التي حدث فيها ذلك، مما يعزز سلوكه في عدم الوثوق بالسعادة.
لكن رغم كل هذه العوامل النفسية، يبقى الإنسان قادرًا على إعادة تشكيل علاقته بالسعادة من خلال الوعي أولًا، ومن ثم العمل على تغيير أنماط التفكير والسلوك تدريجيًا. السعادة ليست وعدًا بالدوام، لكنها أيضًا ليست نذير شؤم، بل لحظة تستحق أن تُعاش كما هي، دون تحميلها عبء الماضي أو توقعات المستقبل. حين نمارس اليقظة الذهنية ونعود إلى "الآن"، نُعيد برمجة عقولنا على استقبال الفرح دون خوف، ومع الوقت، يصبح الشعور بالسعادة أمرًا مألوفًا وآمنًا، لا حدثًا غريبًا نخشاه أو نتجنبه.
التعليقات