" الذكريات الزائفة: هل كل ما نتذكره حدث فعلاً؟ "
عندما كنت في سن صغيرة، كنت أروي لوالدتي بثقة أنني قفزت في الهواء وبقيت معلقة لفترة طويلة فوق سطح بيت جدتي ، كما لو أنني كنت أطير. لم يكن الأمر بالنسبة لي مجرد خيال أو حلم، بل كان في ذاكرتي حدثًا واضحًا ومؤكدًا، أستطيع استرجاعه بتفاصيل دقيقة. لكن والدتي كانت تؤكد لي في كل مرة أن هذا لم يحدث، وأنني فقط تخيلت ذلك. ومع مرور السنوات وتقدّمي في العمر، بدأت أستوعب أن ما ظننته في طفولتي ذكرى حقيقية لم يكن إلا تصورًا صنعه عقلي. ومع أنني اليوم أدرك تمامًا أن القفز والبقاء في الهواء أمر غير منطقي من الناحية الواقعية، فإن تلك الصورة لا تزال حاضرة في ذاكرتي وكأنها حدثت فعلًا ،ولازال المشهد محفوظ كما لو كان ضمن أرشيف التجارب الشخصية .
عندما نسترجع لحظة من الماضي، قد نظن أننا نفتح "ألبوم صور" ذهني يحتوي على أحداث دقيقة محفوظة كما وقعت تمامًا. غير أن علم النفس المعرفي وعلم الأعصاب يكشفان أن ذاكرتنا أبعد ما تكون عن التسجيل الحي والدقيق للتجارب. بل إنها بناء معقد قابل للتعديل، يتأثر بالعواطف، والسياق، والتجربة، وحتى بالآخرين. من هنا تنبثق ظاهرة مثيرة وغامضة تُعرف بـ"الذكريات الزائفة" أو False Memories، وهي ذكريات عن أحداث لم تقع أبدًا، أو وقعت بشكل مختلف تمامًا عمّا نتصوره.
الذكريات الزائفة ليست ظاهرة نادرة أو مقتصرة على الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية، بل يمكن أن تحدث لأي شخص، وفي أي وقت. هي نتاج لآليات نفسية ودماغية طبيعية تتدخل في عمليات الترميز والتخزين والاسترجاع. فعندما نتذكر، لا نقوم "بإعادة تشغيل" الماضي كما هو، بل نقوم بإعادة بنائه، مستعينين بالقطع المتوفرة لدينا، وبما يناسب السياق الحالي أو مشاعرنا آنذاك. هذا ما يجعل الذاكرة "بناءً" وليس "تسجيلًا".
واحدة من أبرز الباحثين في هذا المجال هي العالمة النفسية إليزابيث لوفتوس، التي أجرت العديد من الدراسات حول كيف يمكن للإيحاء أن يخلق ذكريات كاذبة في أذهان الناس. في إحدى تجاربها الشهيرة، أقنعت مجموعة من المشاركين بأنهم قد ضاعوا في مركز تجاري عندما كانوا صغارًا، على الرغم من أن ذلك لم يحدث مطلقًا. باستخدام تفاصيل بسيطة كإشارة إلى أحد أفراد العائلة أو وصف المكان، بدأ المشاركون "يتذكرون" الحدث بتفاصيل حية رغم أنه من اختراع الباحثين. هذا يوضح كيف أن مجرد الإيحاء أو التلاعب البسيط يمكن أن يولّد في أذهاننا ذكريات خيالية لكنها تبدو واقعية تمامًا.
تلعب العواطف دورًا محوريًا في تكوين الذكريات الزائفة. عندما نمر بتجربة مؤلمة، قد يقوم الجهاز النفسي بإعادة صياغة الحدث لتخفيف الألم أو تجنب الشعور بالذنب. كما أن التحيزات المعرفية مثل "تحيّز التأكيد" تجعلنا نميل إلى تذكر ما يدعم معتقداتنا السابقة، حتى لو لم يكن ذلك دقيقًا. في المقابل، قد تختلط أحداث متقاربة زمنيًا في ذاكرتنا، فتصبح ذكرى واحدة مشوشة بين أكثر من تجربة.
علم الأعصاب يدعم هذا الطرح أيضًا؛ إذ أظهرت دراسات التصوير الدماغي أن المناطق المسؤولة عن تخزين واسترجاع الذكريات، كالحُصين (hippocampus) والقشرة الأمامية، تنشط بشكل مشابه سواء عند تذكر حدث حقيقي أو زائف. هذا يجعل التمييز بينهما ليس فقط صعبًا على الشخص نفسه، بل حتى على الدماغ.
الذكريات الزائفة لا تقتصر على المواقف اليومية، بل يمكن أن تكون لها عواقب خطيرة في بعض السياقات، مثل الشهادات في المحاكم أو جلسات العلاج النفسي.
تتجلى خطورة الذكريات الزائفة بوضوح في المجال القانوني. فقد وُثقت العديد من القضايا التي أُدين فيها أبرياء بناءً على شهادات شهود "يتذكرون" تفاصيل دقيقة، تبين لاحقًا أنها لم تحدث. هذا دفع بعض المحاكم في الولايات المتحدة لإعادة النظر في مصداقية شهادة الذاكرة، خاصة عند الأطفال أو تحت تأثير التنويم المغناطيسي.
وفي السياق العلاجي، فإن الذكريات الزائفة تطرح تحديًا أخلاقيًا ومهنيًا. بعض المعالجين النفسيين، خصوصًا في تسعينيات القرن الماضي، استخدموا تقنيات استرجاع الذاكرة لاستكشاف "صدمات الطفولة المكبوتة"، ما أدى أحيانًا إلى خلق ذكريات كاذبة عن إساءات جنسية أو اعتداءات لم تحدث، مسببةً صدمة مضاعفة للمرضى وأسرهم.
ومع كل هذه التحديات، فإن دراسة الذكريات الزائفة تفتح آفاقًا جديدة لفهم الإنسان. فهي تكشف عن مرونة العقل، وعن العلاقة المعقدة بين الوعي، والتجربة، والخيال. كما تدعونا إلى التعامل بحذر مع يقيننا التام بما نعتقد أننا "نتذكره".
التعليقات