أحيانًا يبدو لنا أن الخروج من إطارٍ ما، هو تحررٌ مطلق، كأن نكسر سجنًا ضيقًا وننطلق نحو فضاء مفتوح بلا قيود. لكن، هل يكون هذا "الخروج" فعليًا من دون قيود؟ أم أننا فقط انتقلنا من قالب إلى آخر، من ضابط إلى ضابط، ومن نظام إلى نظام؟

منذ ولادتنا، نعيش في قوالب:

قالب الأسرة، حيث القيم الأولى والتوجيه الأول.

ثم قالب المدرسة، بقوانينها وجرسها اليومي ومع أمثالي صافرة الإنذار، فقالب الأصدقاء، الذي يصوغ سلوكياتنا الاجتماعية.

ثم إن أمكن الجامعة، فالعمل، فالزواج، فالموت… كل محطة هي قالب جديد، تختلف ضوابطه وظروفه، لكنها تشترك جميعًا في شيء واحد: أنها تُحكم بمنظومة معينة من القواعد والمعايير.

الإنسان لا يهرب من القالب، بل ينتقل بين القوالب.

من يفر من سلطة الأسرة بحثًا عن "حرية الأصدقاء"، سرعان ما يكتشف أن الصداقة نفسها تتطلب التزامات؛ من يظن أن الجامعة "تحرر" من انضباط المدرسة، قد يواجه مسؤوليات لم يعهدها من قبل؛ ومن يرى في الزواج حياة جديدة، يكتشف أن لها نظامًا أكثر تعقيدًا من العزوبية. حتى الموت، الذي نعده نهاية، قد فهو انتقالٌ إلى "قالب" روحي جديد.

لكن، ما الذي يميزنا ككائنات بشرية في هذه المتاهة من القوالب؟

إنه العقل، والقدرة على التكيف، والمرونة في التعامل مع المتغيرات. لدينا ما يجعلنا نعيش داخل القالب من دون أن نُسحق، ونعبر بين القوالب من دون أن نضيع.

لسنا أسرى للقوالب، لأننا نستطيع أن نفهمها، نعيد تشكيلها، نكسر ما لا يناسبنا منها، ونصنع لأنفسنا مزيجًا يعبر عنا.

الهروب من القالب ليس حرية مطلقة، بل هو انتقال إلى قالب آخر، لكن وعينا هو ما يجعلنا لا ننصهر في القوالب، بل نستخدمها كوسائل للنمو والتطور.

فما الحدّ الفاصل بين الحرية واللا انتماء؟

كثيرون يهربون من القوالب بحثًا عن الحرية، لكنهم يجدون أنفسهم في عزلة، أو في فوضى داخلية. هل هذا هو ثمن الحرية، أم أنه وهم جديد؟