" حين يصبح الطفل سلاحًا في الصراعات الاجتماعية "
في خضم التوترات السياسية والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات العربية، برزت ظاهرة مقلقة ومثيرة للجدل ، وهي توظيف الأطفال كرموز عاطفية في ساحات الاحتجاج أو كدروع أخلاقية في الخطاب العام. تُرفع صورهم في المسيرات، تُستعرض معاناتهم في المنشورات، ويُستدعى "وجعهم" لإدانة الخصوم وكسب التعاطف... فهل الأطفال أدوات أم أفراد؟ ومتى يتحول الدفاع عنهم إلى استغلال نفسي واجتماعي؟
إن توظيف الأطفال كرموز أخلاقية في النزاعات الاجتماعية والسياسية يمثل إشكالية معقدة تتقاطع فيها الاعتبارات الأخلاقية مع الخلفيات النفسية والتنموية. من منظور علم النفس الاجتماعي، يُمكن تفسير هذه الظاهرة في ضوء ما يُعرف بـ"التأطير العاطفي" (Emotional Framing)، حيث تُستدعى الرموز الضعيفة " كالطفل " لإثارة تعاطف الجمهور وتحفيز مواقف جماعية دون المرور بعملية نقد عقلاني متكاملة. هنا لا يُستحضر الطفل باعتباره كيانًا ناميًا له احتياجات نمائية مستقلة، بل يُستغل حضوره لتمرير خطاب أو فرض رؤية معينة. وفي علم النفس النمائي، يُشير كلٌّ من Jean Piaget و Erik Erikson إلى أن تعرض الطفل المتكرر لمواقف مشحونة سياسيًا في سن مبكرة يُمكن أن يُشوّش مسار بناء الهوية الذاتية ويضعف قدرته على التمييز بين الأدوار الشخصية والاجتماعية، مما قد يخلّف اضطرابات في الإدراك الأخلاقي والانفعالي لاحقًا. وتدعم أبحاث حديثة في " الطب النفسي المجتمعي " هذه الفرضية، إذ تشير إلى أن تسييس الطفولة وتكثيف الرسائل المشحونة حول القهر والمظلومية والانتماء القسري قد يؤدي إلى أعراض ما بعد الصدمة (PTSD)، واضطرابات القلق العام، وحتى الميل إلى التماهي غير الواعي مع السرديات الجماعية، ما يضعف من قدرة الطفل على التفكير النقدي واستقلالية الهوية. وفي هذا السياق، تحذر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF) من كافة أشكال الاستغلال الرمزي للأطفال، مؤكدة أن الانتهاك لا يقتصر على أشكال العنف المباشرة كالاستغلال الجنسي أو التجنيد القسري، بل يشمل أيضًا توريط الطفل في المشهد الرمزي العام بصورة تكرّس معاناته دون تمكينه فعليًا من تجاوزها. إذ يتحول الطفل من فرد يُفترض حمايته، إلى كائن "وظيفي" يُستخدم لأداء دور في سردية لا يفهمها، وقد لا تخدم مصالحه النفسية على المدى البعيد. وبالتالي، فإن الاستدعاء العاطفي المتكرر لمعاناة الطفل في الخطابات العامة، مهما كانت دوافعه، يحمل خطر تحويله من كائن له حقوق سيكولوجية واجتماعية إلى "رمز قابل للاستهلاك"، وهو ما يستوجب إعادة النظر في الحدود الفاصلة بين التعاطف الإنساني المشروع، والاستغلال النفسي غير الأخلاقي.
التعليقات