مشكلة الكاتب الأزلية

الكثير من الكُتَّاب سواء المبتدئين أو الخبراء منهم يعانون من مشكلة شائعة في الكتابة، وهي نضوب الأفكار وقلة مواردها، ويسأل الجميع من أي تأتي الأفكار؟ وكيف يكتب البعض يومياً دون توقف؟!

ومن واقع تجربتي المتواضعة فالأمر ليس صعباً، لكنه يحتاج إلى صبر وتعود وتدريب مستمر، لذلك سأطرح عليكم ثلاث نصائح في هذا المقال، قد يساعدكم تطبيقها على حل مشكلة ندرة الأفكار إلى الأبد بإذن الله تعالى.

النصيحة الأولى: اهتم بالتغذية والتدبر

والمقصود هنا بالتغذية هي المدخلات الفكرية والمعرفية التي تتعرض لها يومياً، بداية من منشور وسائل التواصل الاجتماعي، مروراً بالأفلام والإعلانات والنقاشات اليومية، وصولاً إلى نوعية الكتب والمواضيع التي تقراها، فعند التأمل في كل تلك المعطيات يتبين لنا جذر المشكلة، فإن كانت معظم مدخلاتك المعرفية بسيطة أو سطحية، أو انك تتعرض فقط لما لا يرضي إلا ذوقك، فمن الطبيعي ألا تجد ما يستفزك للكتابة، طالما أن العالم كله يوافقك الرأي، أو أنه غير مستحق لمجهود التأليف والكتابة.

أما مقصدي من لفظ التدبر فهو التفكر والتحليل العميق لظواهر الحياة وبواطنها، فالكاتب الحقيقي مهموم بقضية يدافع عنها ويسوق لها من خلال كتاباته، ويكون قد بنى اهتمامه بتلك القضية على تجاربه ونظرياته وأفكاره الخاصة الأصلية.

أما الكتاب المرفهين فكرياً - كما اسميهم أنا - فهم الذين يمشون في سوق الافكار يبحثون بينها عما يقنعهم بالتنازل والتواضع والكتابة عنها، وهؤلاء غالباً لا يخرجون من ذلك التيه إلا عندما يتخلون عن تلك الرفاهية ويهتمون بفكرة ما.

ومضمون النصيحة الأولى: هو الإنغماس في العالم الذي تكتب عنه، فأنا شخصيا اعشق القراءة لاولئك الذين يغمسونني في تفاصيل عالمهم، دون تصنع أو تسطيح، وقد كنت قرأت رواية ذات مرة لماحمٍ تمكنت دقة تفاصيله من أن تجعلني اشعر كأنني اجلس معه في زوايا وردهات المكاتب والمحاكم، وأسمع معه التفاصيل الخفية التي لا يعرفها من هم خارج مهنة المحاماة، وقد فعل ذلك دون تعقيد أو مبالغة، بصنعة كاتب محترف ومحامٍ فطن.

وما كان ليتكمن من ذلك إلا لان عقله متشبع بتفاصيل مهنته وعالمها الخاص، فالكاتب بوابة يعبر منها القارئ إلى عقله وخياله.

لذلك اخرج نفسك من فقاعة الأمان الفكري والفكاهة المفرطة التي نحن فيها، وتعرض بقلبك وعقلك إلى مواضيع وعوالم جديدة عليك، وليسوا على اتفاق تام معك، لتثير حفيظة الكاتب لديك وتشعر بالرغبة في الكتابة.

النصيحة الثانية: اتقن العزل والنقاش

بعد أن يثيرك موضوع ما وتشعر بحِكَّة الكاتب، يجب عليك أن تقوم بعملية نتظيف وتنظيم لافكارك، بحيث تتمكن من معالجة القضية التي تعصف بذهنك، لأن عقلك في بطبيعته مرعى لقطعان كثيرة من الافكار، بينما تريد أنت ترويض هذا الثور الهائج الآن، لذلك يجب إفراغ عقلك من كل تلك العواصف حتى لا تتبقى إلا غيمتك الممطرة، وعمليا لا يمكن إخراج الافكار من العقل، لكن يمكن تشتيتها كما يتم تشتيت القطيع لتغيير مساره، وذلك من خلال حجب كل المؤثرات الخارجية التي تسمى في هذه الحالة "مشتتات"، وهنا ياتي دور العزلة، فحبس العقل عن المدخلات الخارجية يجبره على تحليل افكاره الداخلية، والعزلة أساسها السكون الداخلي والخارجي، فالأول يدعى الراحة النفسية: بمعنى عدم التفكير في أمر مثير للقلق، والآخر يدعى الهدوء، بمعنى عدم التعرض لأي مثير بصري أو سمعي مزعج.

وللعزلة أشكال عديدة: فالحمام عزلة والشارع عزلة والمكتب عزلة والتخييم عزلة وغيرهم الكثير، فلكل إنسان طريقته في عزل نفسه عن العالم،ولكن العزلة وحدها قد لا تكفي لتوليد الأفكار، وحينا ياتي دور النقاش:

والمقصود هنا بالنقاش طرح الفكرة على ساحة المد والجزر، ومحاولة تفكيك الموضوع العريض إلى افكار بسيطة، وإعادة ربط تلك الأفكار ببعضها من جديد، للخروج في النهاية بمعالجة جديدة ومختلفة للنص، ويصلح أن يكون هذا النقاش ذاتياً مع نفسك أو مشتركاً بينك وبين من ترتاح معه وتسترسل في الكلام.

كمثال إذا كنت تلعب مع قطك وقام أثناء اللعب بعضك بقوة، واستثارك ذلك للكتابة عن سلوك القطط العجيب، فإنك ستجلست مع قطك في مكتبك وتبدأ في محادثته حول الموضوع وكأنه يسمعك ويرد عليك، وفي الواقع انت تحادث نفسك، لكنها حيلة نفسية لمعاجلة فكرة نصك بشكل مختلف.

النصيحة الأخيرة: داوم على التدريب والممارسة

تهانينا لقد حصلت الآن على فكرة جديدة لنصك، كلُ ما عليك الآن هو إحضار الورقة والقلم والإبحار في المحيط الابيض، معكرا صفوه بآثار حبر قلمك وأفكارك، لكنك قد لا تتمكن من الكتابة، أو قد لا يصل ما كتبت يداك إلى تعقيد ما في رأسك، وهذا ببساطة لأن الكتابة كإجراء وحرفة يدوية، يختلف عن التفكير والتأمل في المواضيع، فالتأليف والمعالجة مهارات عقلية، أما الكتابة فهي مهارة يدوية تحتاج إلى تدريب وتمرين مستمر، لذلك عليك أن تمرن يدك على الورق يومياً، سواء تمكنت من جلب فكرة جديدة أو لا، لأن الكتابة مران، والمران ممارسة، والكتابة بشكل عام لا تحتاج إلى فكرة، فوصفة الطبخ التي تريد تطبيقها اليوم على العشاء كتابة، الرسالة المطولة لصديقك كتابة والتعليق على المواضيع والمنشورات بشكل مفصل كتابة، وقائمة مهامك اليومية كتابة وهكذا..

اكتب لتحيا

فإن اردت أن تكون كاتبا فاكتب كرد فعل على الحياة قبل أن تكتب كفاعل فيها، اكتب لتعبر عن ذاتك وليس فقط لصياغة نص جديد، اكتب مخاوفك وآلامك وآمالك وحاضرك وماضيك وتوقعاتك لمسقبلك، اكتب كل ما يطاله قلمك في أي وقت وأي مكان، حينها فقط ستصبح كاتباً.