فلسفة تجاوز الرحلة هي مجموعة من المبادى التي إن طبقتها في أي مجال ستنمو وتتطور فيه بمرور الوقت، لأنها فلسفة تعتمد على إلهاء النفس عن طول الطريق بينما تمضي فيه قدما بلا توقف، ويكون هذا الإلهاء بمجموعة من الخدع النفسية البسيطة التي إن طبقت معاً وبشكل فني، فستؤدي إلى تجاوز مسافة كبيرة جدا دون ان تشعر بها.
ولكي أساعدك على فهم فلسفتي في تجاوز الرحلة لابد أن احكي لك الحكاية منذ البداية:
طفل بالكاد تعلمت المشي منذ عدة شهور، بينما امي واقفة تنتظر الحافلة التي ستقلنا إلى المنزل من أمام الحضانة التي كنت ادرس فيها في مرحلة ما قبل المدرسة، ولما تأخرت الحافلة ولم يكن بيننا وبين البيت مسافة كبيرة، قررت أمي وللمرة الأولى أن تتمشى معي للبيت، ولم أكن متفقا مع تلك الفكرة أبداً، لأني بلغت سن الرابعة محمولا على الأكتاف في كل مشاويرنا بالخارج، ولم أمشي مسافات طويلة من قبل، فقررت أمي في ذلك اليوم أن اخوض تجربتي الأولى في المشي لمسافات طويلة، ومنذ ذلك الحين لم يستطع أحد ان يوقفني.
بدأ مشواري مع أمي بالتأفف والبكاء والتوقف في المكان والإلحاح عليها لركوب الحافلة، فوعدتني أن نركب أول حافلة نراها في الطريق بينما نسير، وهكذا وافقت على تلك المسيرة على أمل مرور حافلة عما قريب، وبعد تخطي ثلث المسافة تعبت قدماي وعيناي من البحث عن الحافلات فعدت لإلحاحي وغضبي، فطلبت مني أن أقرأ لافتات المحال التجارية كتدريب على القراءة، وهكذا أمضيت ثلث الطريق الآخر وأنا أحاول قراءة اللافتات، حتى شعرت بالم في قدماي فبكيت وأنا اطلب منها انتظار الحافلة وركوبها، فأجلستني أمي على احد كراسي انتظار الحافلات وصدمتني قائلة بأن الحافلة لن تمر اليوم لأن مواعيد مرورها مضت، وطلبت مني أن استريح قليلا على الكرسي حتى نكمل الطريق الذي لم يبقى إلا ثلثه الأخير أصلا، وبعد استراحة قصيرة أكملت أول مشوار طويل لي في حياتي على قدمي، ومنذ ذلك الحين أقطع عشرات الكيلو مترات على قدمي دون مبالغة، بمنتهى المتعة والنشوة.
وهكذا طبقت أمي معي أهم ثلاث مبادئ في فلسفة تجاوز الرحلة والذين يمكن تلخيصهم في ثلاث نقاط وهم:
• التأجيل: أن تعد نفسك بالاستسلام للقرار السهل في حالة لم تتمكن من تنفيذ القرارات الصعبة، كما وعدتني أمي ان نستقل الحافلة إن تعبت أنا من المشي.
• الألهاء: بأن تقوم بصرف نظرك عن مهامك اليومية المملة بنشاطات أخرى ممتعة أو ملهمة، كما فعلت أمي معي عندما طلبت مني أن أقرأ اللافتات بينما أسير.
• الراحة: أي أن تأخذ إجازة قصيرة من مسارك اليومي تمنع نفسك فيها من التفكير في الامر وتريح عقلك من الضغوطات، كما قامت امي بإجلاسي على المقعد لترتاح قدماي من عناء المسير.
وكما ترى يا صديقي القارئ المسألة لا تقف على مبدأ واحد ولا على خدعة واحدة، إنما هي خطة تتضمن مجموعة من الإجراءات التي تساعد مع بعضها في الوصول ألى هدف واحد، ويتم استخدام كل إجراء عند الاحتياج إليه وفقاً لتقديرك للموقف الراهن، فالتخطيط عملية مستمرة وليست ثابتة.
وهذا لأنك حين تريد أن تنفذ مشروعاً ما يأخذ وقتا كتأليف كتاب مثلاً، أو حينما تريد تعلم شيء جديد كتعلم لغة غير لغتك الأم، أو بدات في التدرب على مهارة جديدة، ولا يوجد لديك ما يلزمك بفعل ذلك يومياً، فإن دماغك مباشرة سيركز على الألم الناتج عن ملل الممارسة اليومية، مما سيجبرك في النهاية على اختيار الانسحاب كقرار سهل وبلا تكاليف، وبهذة الطريقة لن تصل إلى أي شيء.
وهنا يأتي دور فن تجاوز الرحلة لملئ تلك الفراغات المملة التي تملأ عملية التعلم والتدريب والتطوير، لحثك على الصبر والتحمل والاستمرار رغم الألم.
كما يفعل الصائم في رمضان إذا تعب في أول النهار وعد نفسه إنه إن زاد عليه التعب أخذ برخصة المريض، وهو يعلم أنه لن يتعب إلى هذا الحد، لكنه يستخدم أداة التأجيل.
وأذا تعب في منتصف النهار شغل نفسه بالعبادة وقراءة كتاب الله مستخدما أداة الإلهاء.
وإذا أشرف الإفطار نام قليلا حتى يستيقظ قبل الأذان مستخدماً أداة الراحة.
والأهم أن ما يدفعه ليكمل صومه ويتحمل ألم الجوع مستخدماً فن تجاوز الرحلة إلا إيمانه بالله وبفريضة الصيام.
وهنا حجر الزاوية في الموضوع، فالإيمان بما تقوم به، وبأهميته بالنسبة لك ولمن حولك، هو ما يدفعك لتحمل الألم وتجاوز الرحلة لتحقيق ما تؤمن به، فإن لم تكن مؤمنا بالجدوى من الرحلة، لما حزمت حقائبك من الأساس؟!
التعليقات