بالطبع شهر رمضان رحلة سردية في عالم الروحانيات والتجديد ، لما له من فضائل جمة ، وقداسة روحية عظيمة تتجلىٰ في خلاص الذات الإنسانية من شوائب الحياة وتراكماته، شهر ميزهُ اللّٰه عن باقي شهور السنة وجعلهُ موسم للتقرب والطاعاتِ والتسامح ، موسم لعُلو النفس وزهدِها عن معاصي الأفعال والأقوال ،فيه الإنسان يعيش أجمل تفاصيل الحياة ذات الطابع الروحاني العميق.

شهر رمضان فرصة للتأمل والتقرب إلى اللّٰه ، وتعزيز لإكتمال تجليات القداسة الخالصه لوجه الكريم ، فيه يظفر الإنسان برتب مثالية يتخلص فيها من ما أفسده الدهر ، ولوثته أفعال السنين وتجاوزاته، ناهيك عن إنه مُخلص للذوات من ضغائن النفس البشرية وحِقدها، فالمرءُ يستقيم بمدى إلتزامه بمسلمات اللّٰه، ويعلو إلى مراتب الفلاح والنجاح بصلاح شآنه مع اللّٰه أولًا ثم مع المُحيطين به.

كم نحن اليوم بحاجة لطاقة إيمانية تعزز في ذواتِنا حب الروحانية لأداء طاعات الإلـه بصدق نيه وصفا ظاهر من خلال القيام بـ عظائم أركانه بكل تفاني وإتقان ودون تكاسل.

كما هو شهر طاعة وروحانية ، هو أيضًا شهر لا يخلو عن الذكريات والإرث والعادات والتقاليد.

عن ذكريات الشهر الكريم كانت ولا زالت تمثل حالة من النوستالجيا ..!

تتميز ذكريات شهر رمضان بالأجواء الخاصة التي تغمر الشوارع والأسواق، حيث ينتشر الإحساس بالتضامن والعطاء ،تستقبل العائلات هذا الشهر بفرح وتحضيرات مُميزة، تتضمن تزيين المنازل وتحضير الأطعمة الشهية التي تعكس تراث البلاد، وهُنا تستحضرني ذكرياتي القديمة منذُ زمن بعيد حين كُنتُ طفلًا - قبل الهجرة الداخلية للمدينة - يعيش في قرية ريفية بسيطة يكسوها جمال الخضرة وموسم المطر ،قرية تتوسط جبال شاهقة، ووديان زراعية خصبة، وينابيع مياه عذبه، وأمطار موسيمية غزيرة، تقع على بُعد أكثر من اربعون كيلو مترًا غرب مدينة إب ( محافظة في شمال اليمن ) ، كُنا أطفالًا ننتظر بشوق كبير دخول تباشير شهر رمضان على سماع تهاليل الأجداد وتلاواتهم حتى نبدأ نُمارس طقوسنا المُعتادة بالإستقبال، نزين أزقة الحواري، ونذهب لتهيئة المساجد بالنظافة والترتيب، ننتظر أغراضُنا المُرسلة التي تصل القرية من الأباء المغتربين بالخليج بعد أن تقطع مسافات الحدود من أرض الغربة حتى الوطن - مع كدداين عادين من أصحاب المنطقة- كان لنا طقوسنا الخاصة أوقات المساء، والذهاب لصلوات المغرب والإفطار بعد قضاء أوقات عصرية تتخللها طابع الإيمانيات، ثم التهجدات والجماعة في مسجد القرية الذي كان يُمثل محطة مُهمة من محطاتنا التي ساهمت بشكل كبير في تشكيل وعينا الديني الخالص.

تجمعنا ذكريات رمضان السابقة مع عائلتنا وأصدقائنا في جلسات الإفطار الدافئة، وأجواء الطعام اللذيذ بأصنافه، والمشروبات الباردة بعد يومٍ طويلٍ من الصيام، ومن ثم تأتي لحظات الصلاة المشتركة والتلاوة من القرآن الكريم، تلك اللحظات التي تملأ الروح بالسكينة والطمأنينة.

تظل ذكريات شهر رمضان مصدر إلهام لنا لنكون أفضل في كل عام، فهو شهر التغيير والتجديد، وترسخ القيم الإنسانية النبيلة في قلوبنا وتتجدد العهود بالتقرب إلى اللّٰه وبناء العلاقات الطيبة مع الآخرين.

أما عن شهر رمضان في المدن يأخذ بُعدًا خاصًا يميزه عن غيره من الشهور، حيث تتجلىٰ فيه ذكرياته بطرق مختلفة ومميزة: فالأسواق الشعبية والتجمعات والأماكن العتيقة كلها تشكل جو مختلف يشعرك بحلاوة الأيام ،حيث تشكل الأسواق الرمضانية جُزءًا لا يتجزأ من تجربة هذا الشهر في المدن، حيث يمكن للناس الإستمتاع بالتسوق لشراء الحلويات والمأكولات الخاصة برمضان، ونحن باليمن لدينا من الأسواق القديمة ما يجسد إرث حقيقي خاص بهذا الشهر المُبارك صنعاء القديمة تحتوي على أسواق عديدة، ولها إرث عند أهلها ذو طابع خاص في أستقبال الشهر بشكل مُختلف تمامًا عن باقي شهور السنة، على سبيل المثال كل صنف يُباع في مكان مخصص له الحلويات لها سوق خاص ، والهدايا والتحف أيضًا لها سوق مُخصص ، وهُناك واحد من الأسواق المشهورة التي تزدهر تجارته في شهر رمضان سوق بيع العقيق والخواتم اليمنية التي تصنع وتحاك في ذات السوق، وسوق البُن الشاهد على عراقة وأصالة البُن اليمني بنكهاته وأصنافه.

مدينة صنعاء حباها اللّٰه عن غيرها بطبيعة ساحرة وأرث تاريخي كبير مكنها لتكن واحدة من المدن التاريخية العالمية ،وتعتبر مجمع لكل أبناء اليمن والزوار، مآذنها ومساجدها تزدهر بشكل كبير في شهر رمضان العامة يتوافد إليها ليعيش تفاصيل الروحانية وحالات الإطمئنان الروحية ، فيها الجامع الكبير ذات المساحات الواسعة الذي يستقبل تجمعات الناس أوقات الإفطار والسحور حيث يجتمع الأصدقات والعابرون وعامة الناس لقضاء وقت ممتع معًا في أجواء إيمانية يتوسطها مبادئ الحب والتسامح والتراحم ، دائمًا تترك ذكريات شهر رمضان أثرًا عميقًا في قلوب الناس، حيث تعكس تجاربهم الفريدة والمميزة خلال هذا الشهر المبارك.

في الختام، يبقى شهر رمضان هو فرصة للتجديد والتأمل، فهو شهر الصيام والصلاة، والتضامن والعطاء له أثرًا عميق في قلوبنا وذاكرتنا، ملؤها السعادة والرضا والتقرب إلى اللّٰه.

يشكل شهر رمضان في المدن والقرى وفي كل مكان تجربة إستثنائية تمتزج فيها الروحانية بالحيوية، والتقاليد بالتجديد، إنه شهر يمثل فرصة للتأمل والتغيير، لنكون أفضل نسخة من أنفسنا ونسعى لخدمة الآخرين والمجتمع بشكل أفضل.

فلنحتفل بنهاية هذا الشهر المبارك بقلوب ممتلئة بالشكر والإمتنان، ولنتمنى أن يعيد اللّٰه علينا وعلى الأمة الإسلامية شهر رمضان في السنوات القادمة بالصحة والسلامة، وبأوقات مليئة بالبركة والرحمة.

ولنعلم شهر رمضان يبقى شاهدًا على قوة الإيمان وروح التضامن، ويذكرنا بأهمية التواصل مع اللّٰه وبين الناس، مما يجعله تجربة لا تُنسى وذكرى تبقى خالدة في قلوبنا.