أتتذكر تلك المرة التي جاء فيها أبوك بخروف للمنزل، وجعل يطعمه ويجعلك تلعب معه، وتهتم به أشد الإهتمام وتعطيه اسمًا ك "حنفي" أو ما شابه ذلك، ثم استيقظت يومًا فلم تسمع صوت حنفي ككل صباح، وتسأل عنه أمك فتقول لك "كل عام وأنت طيب" وتعطيك ٥ جنيهات في يدك لتشتري حلوى ما، وتقول لك أنه عند الجزار، ذلك الجار السفاح الذي كلما مررت عليه شممت رائحة منفرة والدم يلطخ ملابسه ووجهه، ولم تطمئن له يومًا لأن أصدقاءك أخبروك أنه يأكل الأطفال، فتجد حنفي عنده ووالدك معه، فتركض ناحية حنفي الذي تجده نائمًا على الأرض الذي يبدو وكأن أحدهم ألقى دلو الطلاء عليها دون قصد، فتهزه ولا تسمعه يجيبك، وتجد السفاح يطلب منك ان تبتعد لأنهم "سيسلخوه" ولم تفهم ما يعني، وتجد يد أبيك على كتفك يشدك للخلف وانت تقاوم صارخًا باسم حنفي، ثم تشاهدهم وهم يعلقوه ويغيروا في خلقته وينزعوا ملابسه البيضاء الجميلة، وقد حذرتك أمك الا تخلع ملابسك أمام غريب، فما بال هذا الحشد يقف هكذا دون حراك، تجد على وجوههم ابتسامات ويحادثون بعضهم وكما أن شيئًا لا يحدث، تنظر لوالدك فيخبرك أن تمعن النظر في المشهد أمامك، فتمر الدقائق وأنت لا تشعر، وتفيق حين يربت أبوك على كتفك ويقول لك "هيا نعود للمنزل" ممسكًا بكيس اسود يتقطر منه طلاء أحمر، رائحته كرائحة السفاح الذي تمقته، وتصل المنزل باكيًا وتمر الساعات حتى تناديك أمك للغداء فتجد طبقك المفضل وهو لحم الضأن المشوي، وتأكل وأنت حزين وتحادث أمك عن ما شاهدته، فيسألك أبوك إن أعجبك الطعام فتجيب بالإيجاب فيخبرك أن هذا هو حنفي، وتدفق الذكريات إلى عقلك وتصرخ في هيستريا وترفض الطعام حتى اليوم التالي، وربما ما زال صدى هذه الصرخة يتردد فيك اليوم.

لمَ خلقنا الله حيوانات؟ ما الحكمة خلف ذلك؟ لم لسنا نباتًا؟ بالتأكيد إن كنت تؤمن بتناسخ الأرواح فهذا السؤال غير موجه إليك، فاليوم أنت حيوان وغدًا شجرة بلوط، وسؤالي موجه للباقين على هذا الكوكب، لم في رأيكم أنتم حيوانات؟

تحدثت منذ مدة عن البؤس والحياة، وعرضت بعض أوجه فلسفتي في هذه الحياة، فأنا أرى جوهرها البؤس والمأساة، وهذا ما لم يصل للبعض، وآخر موضوعاتي لم يصل للبعض كذلك، لذا كتبت موضوعًا يستطيع الجميع أن يدلوا بدلوهم فيه، فهذا سؤال عن طبيعة حياتنا، لا يفترض أن تعيش دون إجابة محددة له وإلا فحياتك هباء، أو غباء.

إذا سألت لم خلقك إلهك -إن كنت مؤمنًا- على هيئة الحيوانات، تقتل لتعيش، لا يمكنك الحياة دون افتراس وجلب البؤس على غيرك من الكائنات، بالتأكيد لا أتوقع منك الإجابة الحمقاء عن أن العقل لا يمكن أن يوجد إلا في الحيوانات التي تصادف أنها مفترسات، ووجه الحماقة في هذه الإجابة أنه نظريًا يمكن أن يوجد العقل في النباتات ولا مانع في ذلك، وهذا بتحديدنا لمفهوم النبات على أنه كل كائن حي يصنع غذائه من عناصر الطبيعة، والعقل بالوعي والذكاء الكافي الذي يجعلك تؤمن بوجود إله وتقرأ كلامي هذا وتفهمه، فلمَ لم يخلقك الله على هيئة النبات؟ ما الحكمة من خلقك حيوانًا لا سبيل له في الحياة غير أن يحيا بجلب الضرر لغيره، أكان غير قادر على ذلك؟

إن كنت أشعريًا -ولا أعتقد أن هنالك معتزلة بيننا- فأنت على الأغلب تؤمن أن إرادة الله مطلقة، ولا ترتبط بعلة أو أسباب أو غايات إلا إرادته، هذا إن كنت ممن يعرف دينه لا يقول مذهبه هكذا وفقط، فيمكنك الإجابة بأنك لا تعلم، هذه فقط إرادة الله، لا سبب آخر، يمكنك أن تأتي لي بدليل من الحديث أو القرآن يوضح تلك الحكمة، وتستطيع أن تعيش حياتك كلها دون إجابة هذا السؤال بقلب مطمئن.

غير ذلك يا أخي الإنسان، ألم تثير هذه الحكمة فضولك ولو للحظة؟ الله كلي القدرة لم يخلقنا نباتًا ولكن حيوانات، ولا حتى حيوانات تتغذى على النبات فقط بل على الحيوانات الأخرى، فكأنه يود أن يضيف بؤسًا إلى بؤسك، ويضاعف المعاناة التي تجلبها على هذه الأرض لتعيش، فلا يكفي الآلام التي تسببها لأمك في ولادتك، ولكن ففي حياتك فأنت سبب للألم دائمًا، وتعيش بجلب البؤس وتولد بجلب البؤس على غيرك.

اعلم عزيزي القارئ، أن أشكال الحياة لم تتطور على هذه الأرض إلا بالبؤس، فالتطور والإنتقاء الطبيعي فرضوا على الحياة أن تفترس بعضها البعض لتعيش، وانتقوا منها الأقدر على الإفتراس فمنحوه العقل، ولم يمنحوا ذلك العقل المتطور للنبات، واعلم أن كل ما تعيشه اليوم هو نتاج آلام الآخرين، لا أتحدث عن طعامك فقط ولكني أتحدث أيضًا عن ملبسك وأجهزتك، فالإنترنت بدأ كأداة حرب لدى الأمريكان، وهواتفك ما هي الا وسائل اتصال حربية، وطائراتك وسياراتك وأحد أعظم انجازاتك وهو الصعود للقمر لم تأت إلا في سياق الحرب، ولم تتطور إلا في سياق الحرب، وكأن الإنسان إن لم يحارب سيعيش في جنة على الأرض، وكأن الجنة تفرض عليك أن يتوقف تطورك، فالجنة في عالمنا هذا هي السلم وهي السكون وهي نهاية التطور.

وكأن المأساة هي قلب هذا العالم ومحركه الذي يحركه دائمًا، وكأن الدراما ترفض أن تترك بني آدم، فيكون أول ما ينجزوه هو أن يقتل قابيل هابيل! حتى يتطور البشر ويتعلموا دفن موتاهم، فأول أفعالنا على هذه الأرض كان القتل، وأول خطايانا كانت العقل، العقل الذي دفع قابيل لقتل هابيل هو ذاته الذي دفع آدم لأكل التفاحة من الشجرة المحرم لمسها، واعلم أن أفضل الرسل هم أولو العزم، وهم أكثر من تحمل آلام هذه الأرض.

ولا تكتفي أرضنا بفرض البؤس قانونًا للحياة، فمازوخية الأرض لا ترضيها أبشع خيالات الماركيز، فأرضك التي احتضنت الحياة ونوعت أشكالها وأرضعتها من ثدييها، ترجع فتغضب على كل من عليها، وتميت كل ساكنيها، وتأتي أمام الإنسان الذي يقضي على كل ما عملت من أجله، وكل المليارات من السنين التي قضتها مسيطرة أولى، وذات السيادة والقرار، وقاتلة ممتازة باسم التضحية، وباسم الأم التي أخرجتنا من بطنها وإليها تعيدنا إذ متنا، فترضخ بمازوخية لكل أفعال الإنسان وتقبل بحرقه الغابات وقتله الكائنات، وأفعاله التي أدت لانقراض الأنواع التي حملتها مليارات السنين ووضعتها في ألم لا يوصف، وحين تغضب عشتار فتحاول إهلاكهم بالطوفان يقوم الإنسان ويقاتلها ويصرعها، ويقطع جسدها ويبني عليه ملكه، وينصب نفسه ملكًا للآلام.

لمَ عزيزي القارئ؟ لمَ تعيش حياتك بهذا الشكل؟ لمَ قرر إلهك أن تكون حياتك دار البلاء والآلام؟ هل الإختبار في هذه الأرض إختبار للعقل ومن يتكبر عن طاعة الله فعلًا؟ لو كان الإختبار هدفه التفرقة بين من سيرى الآيات ويؤمن بها دون تكبر ومن يتكبر، فلم خلقنا الله كحيوانات؟ لمَ أصر على بند الألم في هذه الصفقة المقدسة، هل سينتفي الإختبار بانتفاء الألم؟ أليس العقل هو ما ميز الله به الإنسان عن باقي المخلوقات؟ أليس الإختبار موجه لعقولنا؟ ألم يقولوا لنا ألا نلق بالًا لمعضلة الشر فهي لا تدخل في صلب أدلة اثبات وجود الله؟ إذًا لمَ حياتنا لا تستقيم إلا بالبؤس؟

أعتقد أن الإنسان حيوان بائس، وأحب أن أضيف تفصيلة لسجون المعري الثلاث، الجسد والعقل ومنزله، ألا وهي أننا سجناء المأساة، وهي الجامع لسجونه الثلاث وما تشترك فيها.

هذا الموضوع سأقبل فيه أي إجابة دينية أو فلسفية، لذا أدل بدلوك كما تشاء طالما إجابتك تتعلق بصلب الموضوع.