تتسرب المياة إلى السفينة شيء فشيء وهم لا يشعرون، يقفون على متنها يتصنعون الحب والود وتلمع عيونهم بأمل في مستقبل جديد مشرق، حتى يباغتهم القدر بميل السفينة إلى آخر وجهة لها في قاع المحيط. 

هنا تظهر كل نفس على حقيقتها، حين ترى الموت يحوم حولها من كل اتجاه، فتنهار كل عهود الوفاء، وتتكسر الروابط الإنسانية، لتحل محلها رغبة البقاء في أبشع صورها. 

حيث يسيطر جزء من الركاب على قارب النجاة ويهربون به قبل أن يلحق به الآخرون فيغرقوه، والبعض يتمسك بشيء من خشب حطام السفينة لعله ينجو به من الغرق، وآخرون يعتلون أكتاف غيرهم ويكتمون أنفاسهم تحت الماء لكي يعيشوا هم فترة أطول قبل أن يحصد الموت أرواحهم في النهاية. 

ولكن لماذا يتصرف البشر بأنانية حين يتعلق الأمر بالبقاء؟!

قد يبدو هذا السلوك منطقياً بالنسبة إلينا، لكن بالنسبة لباقي المخلوقات فهذا سلوك شاذ وغير عقلاني، فالنمل مثلاً حين تغرق مستعمرته أو يغرق في الماء يقومون بالتكتل بعضهم فوق بعض لحفظ فقاعات الهواء فيما بينهم فتمنع عنهم الغرق، والماشية حينما يهجم عليها الوحش تتجمع مع بعضها في قطيع واحد لتنجوا، والسمك والطير يفعلان بالمثل، حتى الذئاب تهاجم وتعيش في مجموعات تشبه إلى حد كبير نظام القبائل البشرية. 

لذلك أرى أنه من الغريب أن يفكر البشر بأنانية عند التعرض للخطر، لأنه من المنطقي أكثر أن يتعاونوا، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان بقاء أكبر عدد ممكن من المجموعة، عكس طريقة البشر العشوائية في التعامل مع الكوارث التي يؤدي في النهاية أحيانا إلى فناء الجميع. 

إذا فالمشكلة في طريقة تعريفنا لمفهوم البقاء، حيث تعتبر باقي المخلوقات بقائها مقرونا ببقاء المجموعة كلها، فيما يعتبر البشر أن بقائهم غير مقرون ببقاء غيرهم، وبالتالي يمكنهم التضحية بالجميع إن تهددت حياتهم، وطبعا توجد بعض الاستثنائات من تلك القاعدة، لكن السلوك أنانية البقاء الشاذة في الحيوانات، هي الشائعة عند المخلوق الذي يفوقها ذكاء وقوة. 

يبدوا أن نعمة العقل التي تميز بها الانسان على سائر المخلوقات يستخدمها الإنسان اليوم في إبادة نفسه.

وليس عجيباً أن يكون الإيثار في هذا الزمان من أعظم أخلاق المؤمنين حيث قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: ٩].