"من عبءِ الماضي إلى إجابةِ السماءِ"

بينما كنتُ أرتبُ غرفتي في ذلك اليوم البارد، وجدتُ ورقة مُتهالكة عدّى عليها دهرًا من الزمنِ ، كانت مطوية بعنايةٍ، لكنها متآكلة الأطراف، وحبر كلماتها باهت كأنّه يحاول التخفّي،أمسكتُها بحذر، وكأنني أخشى أن تنهارَ بين يدي.

فتحتها بفضولٍ ، وقرأت:

"يا رب...اجعلني أقوى، والتقمني من بطنِ هذه الأيام، يارب حتى يهدأَ قلبي من جديد."

الخطُّ خطّي، وهذا مفهوم وواضح بالنسبة لي، وأنا من اطلبُ هذه الاستغاثة! ولكن يبدو أن هناك مسافة في الذاكرة حتى أنّي لا أتذكرُ لماذا كنتُ في تلك الحالة؟

مالذي جرى ودفعني لدسّ مناجاتي في رسالة؟

ثم نظرتُ للتاريخِ المكتوب أسفل الورقة:

"آه الآن تذكرت".

وضعتُ الورقة أمامي، ونظرتُ إليها كما لو كانت لحظة لقاء حاسمة بين شخصين، لا بين روحٍ وورقة! 

كانت مُواجهة بين نفسٍ واحدةٍ انقسمت عبر الزمن لنفوسٍ كثيرةٍ وهي الآن في مخاضِ بدايةٍ جديدةٍ.

تلك النفس كانت ضعيفة، خائفة، تائهة، و بينما أمعنتُ النظر أكثر، بدأت أرى فرقًا شاسعًا بين تلك الكلمات وبين ما أشعرُ به الآن.

اليوم ربما لم تندملْ الصعوبات تمامًا، وربما ظلَّت عكورة الأحزان تُئسنُ سُدودَ أفراحي، لكنني أدركُ الآن أنني كنتُ أقوى مما ظننتُ..لقد خُيّلَ لي من غزارةِ التعبِ كما لو أنني كنتُ سأشنقُ نفسي حالما أنتهي من الكتابة، إنظري الآن! لم تفعلِ!

تأملتُ الورقة مرة أخرى..الكلمات المكتوبة فيها لم تكن مجرَّد رجاءٍ مكتوم،أو تعبٍ مكلوم، أو نزيف لقلبٍ مقسوم، بل كانت شهادة على حقيقةٍ واحدةٍ: "أن الله كان معي طَوال الوقت و كنتُ في معيّتهِ دائما".

في لحظتها ربما كان ذلك الأمر شبحًا يؤرقُ حياتي"بالنسبةِ لي" نعم ربما !! من يدري !! لكنّه على الأقل الآن لا يملك خصلة التأثير القوية التي ظننتُ أنني سأزَجُّ فيها مدى الحياة.

عدتُ إلى النافذةِ ، المطر كان يتراقص بهدوءٍ تحت أضواء الشارع،و يرسمُ خيوطًا متشابكةٍ من الفرجِ، بدا المشهد وكأنه يؤكدُ لي هذا الاستعراض الوجداني بين الماضي والحاضر، أن "كل شيء يتغير". 

وكما يغسلُ المطر الأرض، تغسل الأيام أحزاننا وتتركنا أنقى، وأقوى.

طويتُ الورقة، وقبل أن أعيدها إلى مكانها المنسيّ، كتبتُ عليها بخطٍّ جريءٍ وواضحٍ:

"شكرًا لك يا الله، لقد التقمتني رحمتك، وأنا اليوم أقوى لأنَّك معي".

هذه الورقة لم تكُن مجرد ذكرى، بل دليلًا على أنني كنتُ هنا، وأنَّني قاومت،و لم أكن وحدي أبدًا.

مع اقترابِ منتصف الليل، شعرتُ بالأملِ يتسللُ إلى قلبي. أدركت أن كل نهاية هي بداية لشيءٍ آخر، وكل أرض نضبتْ مياهها، يُساق لها في علمِ الغيبِ غيثًا غزيرًا ليرويها.

ثم رفعتُ بصري إلى السماء، وهمستُ برضا:

" يكفيني أنكَ تسمعني دومًا،وترفعني حينما تجثو روحي

 وتستجيبْ لاستغاثاتي مهما كانَت قادمة من زمنٍ بعيدٍ، 

 تكسَّرت فيهِ حبال صوتي".