أطفأتُ اليومَ شمعةُ السبعين..فشعرتُ بلهيبها يخترقُ ذاكرة الجسد، ويذيبُ أحلام العمر، ويغرِقُ الروح في سيلٍ من ذكرياتٍ مضت ،لم تكن الشمعة مجرد ضوءٍ يطفو فوق كعكةٍ بائسةٍ في زاوية الغرفة، بل كانت رمزًا من حياةٍ انساقت خلف حُكمِ القدرِ، وذكرياتٍ تكاثفت على ضفتيّ عمري ، تتساءلُ كل يوم عن معانيها؟

في مكانٍ يشبهُ السِّجن لمن عاشَ حياتهِ حرًّا، أتذكرُ يوم أحضروني إلى هنا كان المطرُ يهطلُ بغزارةٍ، لكن بردهِ لم يكن شيئًا مقارنة ببرودةِ قلوبهم وهم يقولون:" هذا المكان سيكون أفضل لك"

في ذلك اليوم شعرتُ أن حياتي كانت عبارة عن أثاثٍ قديمٍ لا حاجة لوجودهِ والاستعاضة عنهُ شيء مُستطاع.

أصدقائي هنا كانوا يجاهدون لرسمِ الابتسامة على وجهي رغم جراحنا المشتركة و فراغنا العميق في قلوبنا، ذلك الفراغ الذي لا يمكن ملؤهُ إلاّ بحضور شخصٍ من دمِّنا، و من لحمِنا، شخص يقول لنا: "أنا هنا ، أريد أن أكون معك." لكنَّ الصوت كان غافيًا وللغصَّةِ صحوةٍ وبقيَّة.

أنا لستُ مجرّد مُسِنّ أودعتهُ الظروف إلى هنا، أنا أبٌّ ولي ماضٍ وذكريات و بيتي أجمل بيت بالعالم، هكذا أقولُ لنفسي كل يوم ؛ كي لا أنسى الحقيقة، كي لا أكون مجرد اسم آخر على قائمةِ الانتظار الطويلة للنسيانِ.

البعض يعتقدُ أننا جيمعنا هنا لأننا بلا أهل، لكن بعضًا منهم اعتبرنا عبئًا ثقيلًا، والبعض الآخر أقنعنا أن هذا هو الأفضل. و الحقيقة المؤكَّدة والأكثر مرارةً هي أننا هنا لأننا لم نعد جزءًا من حياتهم.

في كل زاوية من زوايا هذا المكان ،بشرٌ يحملون مدن من المشاعرِ والذكريات، كل منهم غارق في فقدهِ الخاصّ، فها هو صديقي "أبو محمد" لا يزال كل ليلة يخرجُ من تحت وسادتهِ صورة زوجته ويحدقُ بها كأنّها نافذته الوحيدة إلى الماضي، بينما تغفو كل ليلة"خديجة" على الراديو القديم الذي يبثُّ أغنية من أيامِ شبابها، أمَّا "أم أحمد" فأصبحت العكاز هي صديقتها الوحيدة و أمانها وسط شلل الحياة وغدرها الحتميّ، لكنّ "أبو يوسف" كان يعتقد أنَّه أسير ظلم قرارات أبناءهِ، كانت عيونهِ تقدح بنيرانٍ مكبوتةٍ،تنتظرُ الفرصة المناسبة لكي تُشعلَ حياتنا الجحيمية جحيمًا آخرا أبديًّا.

كان كل شيء هادئًا في تلك اللحظة، عدى ضجيج أرواحنا، وخشخشة أنفاس النائمين التي تحسبُها من صريرها صخورًا جالسة على صدورهم، كان الظلام يبتلعُ المكان، ولا يكسرهُ سوى خطوات بعض الممرضات في الممرِ، وحفيف الأشجار وظلالها الراقصة العاكسة على النافذة.

أغلقتُ في هذه اللحظة ضوء المصباح واستعددتُ للنومِ، وفجأة، كالصاعقةِ التي تشقُّ سكون الليل، دوَّى صراخ مفاجئٍ: حريق!! حريق!!

قفزتُ من السريرِ مذهولًا، رغم وزن الأمراض التي أُعاني منها لكني نهضتُ بقوةٍ كبيرةٍ،قلبي يدقُّ كطبولِ الحربِ،كان الدخان الأسود ينتشرُ بسرعةٍ كشبحٍ جائعٍ يفترسُ كل من حولهِ، بدأنا بفتح النوافذ، لكن وهج النيران البرتقالية كان يمهِّدُ لجهنّم!

رأيتُ "أم سعيد" تمسكُ بصورةِ قديمة لأولادها وتستغيث: لا تتركوني مرتين!! ساعدوني

و"أبو خالد" يجرُّ نفسه ومع كل خطوة سعالهُ يقطعُ أوتارهِ،

أمّا "أبو محمود" فقد وقف كمنْ يستسلمُ لنهايتهِ وعينيهِ تلمعان بغضبٍ باردٍ قال: لقد فعلها، لقد فعلها "أبو يوسف".

لقد فهمتُ الآن كيف يمكن أن يتحولَ الإكتئاب لإعصارٍ من الغضبِ، ويدفعُ الإنسان للإنتقامِ من نفسهِ وكأنَّ الإنتقام السبيل الوحيد للتعبيرِ عن عمرٍ بُنيَ على سرابٍ.

لم أستطع أن أنقذهم، لقد شعرتُ أن صدري يمتلأ بالدخان شيئًا فشيئًا، وصورهم تتلاشى في عيني رويدًا رويدًا،كان الدخان كثيفًا كالسدّ الذي يحجبُ بين الواقعِ والخيالِ، ومريرًا مثل جرس أخير يعلنُ نهاية رحلةِ عمرٍ انتهتْ بقسوةٍ.

في ومضةٍ عاجلةٍ تذكرتُ حياتي، أمي، أبي، أولادي، والخذلان الذي رعيتهُ في قلبي، وسألتُ نفسي: 

هل سيعلمون يومًا أنني كنت هنا؟ أم ستبتلعني النيران دون أن يذكرني أحد؟

ثم غمرني شعور غريب، ليس بالخوفِ ولا بالألمِ، بل بالاستسلامِ التامّ. شعرتُ أن النيران كانت تطهّرني من كل الألم الذي حملته في سنواتي الأخيرة ، وتمنيتُ قبل أن أغفوَ في نومي الأخير لو كان أحدهم هُنا ليحملني بعيدًا عن هذا الدخان، لكن صورتكم هي آخر ما فكّرتُ به قبل أن أغمضَ عيني التي بكتكم كل يوم وللأبدِ…وللأبدِ.