عقبة الكاتب الأولى التي تقف بينه وبين الصفحة البيضاء هي تصوره النهائي للنص، وهذا ورغم أن الكتابة الحقيقة تعتمد على التجربة لا التوقع.

تمرين نسخ الأفكار

ولإدراك هذا المعنى يمكن لكل كاتب أن يقوم بتمرين اسمه نسخ الافكار: بحيث يقوم الكاتب يومياً بتحويل واحدة من المواضيع التي تشغل باله إلى نص مكتوب، دون تمحيص أو تدقيق أو معالجة، مجرد تفريغ فكرة ما تؤرق دماغه بشكل يومي، وسيلاحظ مع مرور الوقت أنه صار يمكتلك بنكً من الأفكار والنصوص القابلة للتعديل، التي يمكنه أن يستعين بها في مؤلفاته التالية.

الجودة والخامة

وما كان يمنعه عن إخراج تلك الأفكار من رأسه وصياغتها على الورق من البداية، إلا كونه يركز على تحويل الأفكار القليلة التي يعمل عليها إلى مؤلفات عظيمة لا مثيل لها، وهذا التفكير المفرط في الجودة يحرم الكاتب من مورد مهم من موارد الإبداع، ألا وهو التنوع والقدرة على الربط.

فالأعمال العظيمة صنفت كذلك لأنها أفكار مركبة من عدة عناصر مختلفة، ولكنها مصاغة معاً بشكل جميل ومنسق وهو جوهر عملية التأليف.

أما العمل على فكرة واحدة لجعلها عظيمة فهو أمر لا فائدة منه، لأن كل موضوع لوحده معروف ومكرر ولن يأتي صاحبه بجديد، فالخطايا السبعة كمثال كثر الكتابة عنها منذ فجر التاريخ، فإن تناولتها موضوعيا لن تبدع بأي شكل لأنك لا تنقل خبراً جديداً، أما ما يجعل الفكرة مميزة فهي زاوية التناول واسلوب العرض والمعالجة المميزة لها، وكل هذا لا يأتي من صلب الفكرة نفسها بل من عوامل خارجية داخلة عليها.

وكمثال تشبيهي فإن الذهب الخالص لا يصلح للسبك بسبب ليونته الشديدة، لذلك يُخلط بالقصدير والنحاس ليتصلب لمرحلة يمكن معها تشكيله، ثم تضاف له بعض الأحجار الكريمة والجواهر، ويصاغ بشكل أبداعي جميل فيتحول من معدن طري إلى حُلي صلبة وجميلة.

الفن كالهدية

وهكذا يجب أن يتعامل الكاتب مع أفكاره، فتنوع المصادر والربط بين المواضيع، والقدرة على إتقان تكوين الجملة والنقل الجيد بين الفقرات، هو ما يصنع كتابة مميزة وكاتباً محترفاً.

فإن لمعت في عقلك فكرة وشعرت بأنها ستكون عظيمة، أنزلها أولاً على الورق ثم أعد تقييمها، وتبين نقاط الضعف فيها، وما مدى الفجوة بين ما تريد قوله وما كتبته فعلاً وما يمكن أن يفهمه المتلقي، وبعدها عالج تلك الفجوات بطرق ابداعية، ثم ضع لمستك الخاصة واسلوبك، وبهذا تحول فكرة لامعة إلى نص متقن ومبهر.

أما إن اردت أن تحافظ على فكرتك كما خرجت من رأسك دون تعديل، فأنت كمن فتح مطعماً يقدم فيه طعاماً نيئاً غير مطبوخ، ثم تتعجب لماذا لا يأكل الناس عندك، رغم أنك لا تقدم لم ما يقنعهم بجدوى ما تقدمه بالنسبة إليهم.

وإذا تدبرت الأمر في أي فن آخر، ستجد بأن الفنان في أي مجال، يستخدم العديد من العناصر الخارجية ويدمجها مع فنه ليبرز مدى جمال فكرته ومدى براعة اسلوبه ليحكي قصة خاصة به.

واعلم بأن فنك هدية لمتلقيه، فلا تقدم له ما لا ترضى أنت ان تقبله منه، ولا تفني عمرك كله تحضر في هدية واحدة.