في الطريق إلى العمل ورجوعا منه يتجاوز الوقت الذي أقضيه خلال فترتي الصباح والظهيرة لأكثر من أربعين دقيقة منذ العام ٢٠١٧ حتى هذا اليوم.
ولكن وبعد ظهور البودكاست كان لهذا الوقت طعم آخر، فبعدما كانت نقمة على من علق في زحام السير أصبحت الآن بالنسبة لدي أكثر دهشة وروعة عن ذي قبل، كل أسبوع أتلهف إلى سماع حوارات جديدة، وأفكار جديدة، وعبارات مثرية، جاعلة من رحلة العمل فكرة جذابة للخروج من البيت وقضاء وقت أكبر مع زحام الطرق.
مؤخرا إستمعت لأحد حلقات (سوالف بزنيس) وكان الضيف أحد مؤسسي سلسلة مطاعم كودو وهو المهندس عبدالمحسن اليحيى، وهي قصة ارتبطت معها عاطفيا بشكل شخصي لكوني في يوم من الأيام كنت عميلا لهذه العلامة التجارية، والتي لطالما ظننت أنها قدمت من خارج المملكة، ولكن الحقيقة أنها تأسست تحت أيدي مواطنين سعوديين في وقت لم تكن فيه هذه النوعية من المطاعم موجودة.
لن أتطرق لحكاية قصة تأسيس المطعم، وانتشاره بعد ذلك، وتخارج عبدالمحسن اليحيى منه لاحقا، في الحقيقة أكثر ما أدهشني سؤال مشاري الدبيان مقدم الحلقة لضيفه عن ماذا بعد كودو؟
أجابه عبدالمحسن بأنه توقف عن الركض خلف أي عمل تجاري، ليصبح هدفه جودة الحياة (نفسيا، ومعنويا، وجسديا) وإشارته إلى أن لديه ما يكفي من المال وهو في عتبة الخمسين من العمر، مهتما بعد ذلك بأسرته القريبة والبعيدة، وبأصدقاءه، وتقصيره السابق في علاقته مع ربه ورغبته في تقويتها من جديد، مع إستثمار ما يملكه في أصول مستدامة لا تحتاج إلى مجهود جسدي مثل (العقار، والأسهم، والمحافظ الاستثمارية).
هذه الإجابة أدهشتني حقا وأنا أستمع للحلقة، ليس لأنه قرر ذلك، ولكن لأنها هدف من أهدافه في تحقيق ما سماه (جودة الحياة) وهو تنفيذ عقلاني وذكي في ما تبقى من حياته، عن النقطة التي تكتفي فيها ماليا، وألا ترغب في المزيد من الأموال تدخل إلى جيبك!
مؤخرا أنهيت كتاب (سيكلوجية المال) لمورجان هاوسل، وهو بالمناسبة كتاب عظيم جدا، ولن أبالغ إن قلت بأني سأصنفه من أفضل الكتب التي قرأتها مطلقا في حياتي في الجانب المالي، وربما صادف ذلك المرحلة التي أعيش فيها حاليا وقناعتي بفكرة الاستثمارات بعيدة الأمد، الكتاب لن يخبرك كيف ستصرف أموالك، وأين ستضعها، وكيف ستستثمرها، إنما سيحدثك عن علم النفس البشري وقضية تعامله مع المال في أكثر من جانب.
يتطرق الكاتب مورجان في أحد فصول الكتاب إلى فكرة (الحرية) أو الإكتفاء والتي آمن بها مؤسس كودو عبدالمحسن اليحيى، وهي كما قالها نصا في الصفحة ١٢١ من الكتاب:
إذا كان هناك قاسم مشترك في موضوع السعادة - كوقود عالمي للفرح- فهو رغبة الناس في التحكم في حيواتهم، بمعنى القدرة هلى فعل ما تشاء عندما تريد، ومع من تشاء، وقتما تشاء، هو أمر لا يقدر بثمن، إنها أكبر مكسب يقدمه المال لك.
كتاب سيكلوجية المال
والتي يعني بها حرية الوقت، وعن إمكانية تحكمك فيه دون دون تغلب الوقت عليك، وذلك من خلال أصولك غير المستنفدة، وقد أشار بأمثلة من قبيل (لو لم يكن لديك مالا مدخرا طارئا لما يعادل قيمة راتبك لمدة ٦ أشهر) فسوف يتغلب عليك الوقت وسيضغط عليك بعد فصلك من عملك لقبول أي عرض ولو كان متدني الأجر، بينما لو قمت بذلك وقد كان في حسابك البنكي مالا يكفي لمدة ٦ أشهر، فلن يجبرك حتى لو كان الوقت في قبول أي عرض، أو رغبتك في الذهاب لإجازة دون هلعك الكبير من فكرة نفاذ المال لديك.
اليوم الوظائف تختلف عما كانت عليه مثلا أمريكا في عام ١٨٧٠ م فقد كانت الوظائف في الزراعة تشكل ٤٦٪ من الوظائف، و ٣٥٪ في الحرف أو التصنيع وفقا للخبير الاقتصادي روبرت جوردن، ويعني هذا بأن الوظائف فيها أعباء جسدية لا تتطلب إعمال العقل والتفكير، فقط اعمل بجد دون انقطاع، أما اليوم فقد تغير الأمر، واترك كل شئ بعد مغادرتك للمزرعة أو المصنع عند نهاية عملك.
تحمل ٣٨٪ من الوظائف الآن أوصافا مثل (مديرون ومسؤولون ومحترفون) وهذه هي وظائف صنع القرار، و ٤١٪ من الوظائف الأخرى هي وظائف خدمية، والتي كثيرا تعتمد على أفكارك بقدر أفعالك، هذه الوظائف التي تحتاج لإعمال العقل سوف ترافقك في طريق عملك، والخروج منه، وفي وقت عشائك، ومع عائلتك، وهنا يتقلص تحكمك في الوقت وبالتالي تأثيره المباشر عليك بعدم سعادتك.
في كتاب ٣٠ درسا من أجل الحياة، أجرى عالم الشيخوخة كارل بيلمر مقابلات مع آلالاف الأمريكيين المسنين بحثا عن أهم الدروس التي تعلموها من عقود الخبرة الحياتية وقد كتب:
لا أحد ولا حتى شخص واحد من بين ألف شخص قال انه لتكون سعيدا عليك محاولة العمل بجد بقدر المستطاع لكسب المال من أجل شراء الأشياء التي تريدها. لا أحد، ولا حتى شخص واحد قال إنه من المهم أن تكون بثراء الأشخاص من حولك نفسه على الأقل، وإنه إذا كان لديك أكثر منهم، فهذا نجاح حقيقي. لم يقل، ولا حتى شخص واحد إنه يجب عليك اختيار عملك بناء على قوة الكسب المستقبلية التي تريدها.
٣٠ دروسا من أجل الحياة - كارل بيلمر-
لقد قدروا أمورا مثل الصداقات الجيدة، وكونهم جزءا من أمر أكبر منهم، وقضاء وقت طيب وغير محدود مع أطفالهم، لا يريد أطفالك أموالك (أو ما تشتريه أموالك) بقدر ما يريدونك وعلى وجه التحديد يريدون وجودك إلى جانبهم.
خذها من أولئك الذين مروا بكل مراحل الحياة: التحكم في وقتك هو أكبر مكسب يقدمه لك المال.
هناك أسئلة جوهرية تظهر بين ثنايا هذه الأفكار، مالذي يعنيه الاكتفاء؟ ومالذي يختلف عنه الطمع؟ ما هي الشعرة الدقيقة لهذين العادتين المختلفتين؟ وهل الصحيح أن نتوقف حينما نكتفي ماليا؟ أم أن نعود لطبيعتنا البشرية في اللهث وراء الأشياء وألا نوقف هذه الغريزة الدفينة بحثا عن ما هو أكبر؟
شارك هذه النشرة لمن تعتقد بأنها تهمه أو تلهمه.
إليك أيضا:
التعليقات