كنت قد شاركت في مسابقة عن ذكرى النكبة القادم الرابع والسبعين , لم أفز , سأحاول في المرة القادمه بإذن الله , ولكن أحب أن أشارككم ما كتبت أصدقاء حسوبIO .

مرمياً على فراشه , فتح عينيه ببطءٍ شديد , يشكو شوقاً قد باحت عيناه به , كنت أنا ابن السنين السبع أستمع إليه وهو يحدثني عن حكايته المريرة , كان يتمسك بأغلى كنزٍ لديه بين يديه, ذلك المفتاح العتيق المرصع بأمل العودة إلى الباب الذي كان يحتويه, مثله ككل المفاتيح المتفرقة عن أبوابها والتي يحملها الأجداد في كل مكان, يتلمسونها كل حين خوفاً من ضياعها, كانت شجرة السنديان لجدي رمزا للكآبة وطيفاً يظهر أمامه في كل مرةٍ أغمض عينيه بها , منذ ذلك اليوم الذي يحدثني عنه دائما حيث يبدأ حديثه به ويتوسطه وينهيه في كل حديث, حيث كان لا بد من أن نعود الى ذلك اليوم تحت الشجرة في كل حديثٍ لنا, حتى أصبح ذلك عادةً من طقوس أحاديثنا .

تنهد بعمقٍ وزفر وجعاً قد غاص في نفسه ولم يخرج على مر السنين, ليبدأ الحديث بعد ذلك كعادته

تحت شجرة السنديان جلسنا نستريح ,وهناك أدركنا أننا تركنا كل شيء ,ولم نحمل معنا إلا مفاتيح الابواب المفتوحة لبيوتنا المهجورة التي تركناها ورآنا دون أي تفكير, نظرنا للحدود والديار والى الدخان الاسود القاتل الذي التهم كل شيء واخذ بالتصاعد, كان الخوف يسري في عروقنا من حال الديار ومن مصير مجهول لا نعرف عنه شيئا, لم يحترموا قداسة أرضنا فدمروا وعاثوا فساداً ما استطاعوا, انتشرت أخبار القرى المدمرة كالنار في الهشيم حتى وصلت الى قريتنا ,وارتسمت تعابير القلق والخوف على محيانا من ما هو أتٍ, البعض لملم ما يملك وجمع أفراد بيته وذهبوا لمستقبل أقلقهم ولخوفٍ عشش في نفوسهم والبعض آثر البقاء غير آبهٍ لما سيحدث فكان الموت عليه أرحم من الرحيل .

حتى أتى اليوم المشؤوم, حيث دخلت دورية عسكرية مدججة بالأسلحة والدبابات, وقف مختار قريتنا ,رجل عجوز شائب , معلناً أمامهم عن عزمنا على البقاء,تلك الوحشية التي أغارت علينا لم تكن تعرف الرحمه , فسرعان ما رأينا الدماء تسيل في المكان , إما المغادرة أو القتل ,أتذكر ذلك المشهد جيداً وكيف أنسى!, وقد اضطر الكثير مكرهاً على المغادرة دون أن يلتفت وراءه, وجمع كل واحد عائلته ومضى خوفاً عليهم في طوابير رحيلٍ مزدحمة .

ويا ليتنا متنا قبل ذلك ,أو يا ليتنا كنا احجاراً لا نتزحزح, أو شجرة زيتونٍ متجذرة .

الناس تتخبط ببعضها ,منهم من يبحث عن ولده الذي ضاع بين حشودٍ مضطربة, وهناك الذي أخذ يجمع ماله وما ادخره لأيامٍ ظن أنها ستكون قاسيةً عليه ولكنه لم يمكن يعلم أن قسوة الأيام لن تكون بفقرٍ او حاجة بل ببعدٍ وفراق وبحثاً عن مأوى ,كانت الأيام مريرةً لدرجةٍ لم نستطع تخيلها ,

حشودٌ تسير في صفٍ طويل خارجةً من القرية, كنا نسير في طريقٍ مجهول, لم يكن ما يشغلنا أين نذهب بعد ذلك ,بل اكتفينا بالرحيل على عجل ,الرحيل ولا شيء آخر وقلوبنا تنبض بالخوف لا زلت أتذكر جارنا مسعود الذي عزم رغم كل شيء على البقاء مع نفرٍ قليل لم يترنحوا ولو قليلا, فكان الموت أهون بكثيرٍ عليهم من المغادرة ,الحياة والموت هنا أفضل من حياةٍ تتزين بالموت خارجاً ,كان مخلصاً وكانوا مخلصين للديار فاختاروا الشهادة , كان صادقاً محبوباً ذا جودٍ ووفاءٍ لأرضه وكانوا كذلك , حتى اختارت الأرض احتضانهم .

تحت شجرة السنديان تنفسنا الصعداء وكل شيء معكر بداخلنا, وفجأة لم نعرف إلى أين وإلى ماذا وصلنا , كل شيء مر بسرعة, ولكن الأيام بعد ذلك أيام اللجوء والبرد والقمع والجوع, كل ذلك كان تحدٍ لنستمر بالعيش ,كانت تلك النكبة المنكوبة التي مرت دون أن تدعنا نفكر أو نفعل أي شيء غير الغرق في خوفنا والأيام التي تليها مريرةً جداً, وبطيئةً جداً لتكوينا وتحرقنا على مهلٍ لنتألم اكثر. 

ضياع وشتات , في ليلةٍ وضحاها أصبحنا بلا ديار لاجئين على الطرقات وفي الخيام.

أخذ صوته يرتجف كما في كل مرة ٍ يروي فيها ملامح ذلك اليوم على مسامعي , وانسدلت على خديه قطرات من دموعٍ متعذبة , أجزم أنني لم أر دموعاً بهذا الحزن كدموع جدي آن ذاك , ولو أن الشوق يظهر كنارٍ مشتعلة , لكان أكثر الناس اشتعالاً بشوقه لدياره , وفي تلك الليلة الباردة أخذ يسدل عينيه شيئا فشيئا, مع ابتسامةٍ ارتسمت على شفتيه, آخر نظرة ٍكان يعتليها كانت كما لو أنه رأى دياره من جديد, ولربما كانت هذه منطقة اللاوعي عنده ,ما أتذكره أنه همس لي في آخر نفسٍ له "سنعود" ومن ثم اختفى للأبد ولكن رسالته وكلماته لم تختفِ . 

بعد أربعةٍ وسبعين عاماً على يومه المشؤوم, يوم النكبة المنكوبة ,أحمل كنزه المرصع بالأمل الذي لا يصدأ, وأخطو بقدمي إلى داخل تلك القاعة المملوءة بالجيل الذي سيحمل رسالة جدي من بعدي, وأتذكر دموع جدي التي لو حملت قلما ولو كُتِبَت على ورق فستُكتَبُ أكثر قصةٍ حزينةٍ بكلماتٍ حروفها تبكي من شدة الفراق والاشتياق والمعاناة , فكيف أنسى تلك الدموع وكيف أنسى حلم العودة .

فذكرى النكبة الرابع والسبعين مهما طالت فإن أملنا بالعودة إلى ديارنا المغتصبة لا يصدأ بل هو متجدد مع مرور الزمن كشروق الشمس كل يوم في كل طفلٍ وشابٍ وعجوز فلسطيني .

رسالتك يا جدي واضحة جلية , فإن هدمت الأبواب فمفاتيح العودة تظل كنزاً ستعيدنا يوماً ما وسنفتح الأبواب وإن هدمت فالقلوب تعرف الدرب والدار .