هل يكفي الهرب لتجاوز المستنقعات الآسنة التي تجبرنا الحياة على خوضها!؟ وهل يمكننا الهرب أصلا أم أن الحياة هي نفسها عبارة عن مستنقع كبير يلتهم كل عابر فوقه سواء أجاد السباحة أم لم يفعل!؟ ثم إلى أين سيمكننا الهرب!؟

الرغبة في الهرب التي تعترينا أمام كل وضع سيئ، أو غير سيئ أحيانا تكاد تدفعنا دفعا نحو التخلي عن كل شيء، المنصب والسلطة والحب والمجد والمال. رغبة غريبة نتشاركها جميعا، عند تفاقم المسؤوليات وجموح الطموح وهيجان الروح والالتصاق بالآخرين. يكون الحلال أقرب للقلب والأقسى على العقل هو الهرب.

نستيقظ صباحا على وقع منبه يصرخ كمهاجر سري تم ضبطه عند حدود بلده المنشود، يخبرنا أن صراخه ما هو سوى بداية يوم جديد علينا عيشه أو بمعنى أدق تجاوزه.

يعتبر كونديرا أن المنبه هو أسوأ اختراع عرفه الإنسان، استوقفني اقتباس له لساعات وهو يصف بدقة بالغة الإزعاج الذي كان مصدر حيرة لي مدة من الزمن، فيقول “في هذا البلد، لا يحترم الناس الصباح. إنهم يوقظون أنفسهم بفظاظة بوساطة منبه يقطع نومهم بضربة فأس ويستسلمون في الحال لسرعة مشؤومة. هل باستطاعتك أن تقول لي ما يمكن أن يكون عليه نهار يبدأ بهذا الفعل العنيف؟ ما الذي يمكن أن ينتج عن أناس تنزل بهم منبهاتهم صدمة كهربائية صغيرة يوميا؟ إنهم يعتادون كل يوم على العنف وينسون كل يوم ما حفظوه عن السعادة. صدقني صباحات اﻹنسان هي التي تقرر طباعه”.

لكم رغبت بالهرب من منبه الهاتف، كنت أراه في أحلامي غولا يلحق بي بين شوارع ضيقة تشبه شوارع باريس في عصور ظلامها وأنا حافية القدمين وحول عنقي يلتف حبل خشونته تزهق روحي.

ثم يكون عليك أن تواجه كل يوم جحافل آدميين يمتطون الحديد ويستنشقون دخانه، ممن أعلنت أجراس منبههم بضربة فأس صاعقة بداية يومهم المجهول. يكون عليك أن تواجه جحيمهم ويأسهم وإسرافهم في الأمل والأكل والمتعة. فتنقض عليك الرغبة المحمومة بالهرب، من الوجوه والأنفاس والسيارات والمقاهي والعطور وأصوات النساء وغمزات الرجال، من مكتبك المستعد لالتهامك أنت ويومك، من عملائك الذين ينتظرونك لتحل كل مشاكلهم، من أصدقائك الذين يتوقعون من الإيجابية المعدية والمرح الفائض، من حبيبتك التي تريدك مذكرة لا تنسى تواريخها المفضلة. غير أن الهرب بمعناه الحرفي يبقى مجرد حل طوباوي ووهم لا تطاله الأيدي، فبمجرد خروجك إلى العالم تصرخ وتبكي بينما من حولك يتراقصون ويتضاحكون دون استئذانك أو حتى طلب رأيك، هو إقرار بأن الهرب غير ممكن مادامت تستهلك غازات الطبيعة المتعددة وتفرز أخرى.

يوما ما بعد معركة طويلة خضتها عزلاء، عائدة كجيش منهك لم يعد يعنيه النصر في شيء. الضوضاء تلفني من كل جانب، والأطفال يتقافزون بدون سبب، والنساء يضحكن وبين تجاعيد وجوههن يسترخي تعب مرعب. شجار عابر بين رجلين حول من الأحق بالمرور، ينتهي الشجار بمرور سيارة رجل ثالث استغل الموقف. متسولون يحملون ملفات طبية مفبركة، ومشردون يتقاسمون مثلجات اختطفها أحدهم من يد مراهقة تكشف عن سرتها وتمشي بطيش أنثوي ستندم عليه لاحقا. أرفع يدا ثقيلة كمدفع فأوقف سيارة أجرة نظيفة، أجلس بداخلها وأخبر السائق بالوجهة. فأهرب.

كان رجلا خمسينيا بلحية خفيفة، سيارته نظيفة تفوح منها رائحة الياسمين هندامه بسيط ومرتب وشعره مصفف بعناية، يضع خاتمين في يده اليمنى وإسورة من جلد في اليد الأخرى. ويغني. كانت الأغنية للراحلة وردة، بتونس بيك، يرددها بسلام مستفز، ويحرك أصابعه كأنها تنساب فوق آلة كمان باحترافية عالية. ويبتسم. يبتسم للضوضاء والمشردين والمتسولين والمتشاجرين والأطفال المزعجين والمراهقة عارية السرة، ولي. كان أستاذا مبرزا في الهرب. قد أنشأ قوقعة لا تسع سواه، جزيرة خاصة لا تطؤها رجل كائن عداه. يهرب نحوها كلما شعر برغبة الحياة في إنهاكه، محتميا بها وفيها.

اليوم صرت أيضا أحمل قوقعتي معي أينما كنت. أهرب إليها كما يفعل سائق الأجرة، أختار فيها ما أريد وأنعم فيها بقدر محترم من السلام، جدرانها من موسيقى وكتب ورقص وشعر وخلوة وخروج عن المألوف وانتهاك للقواعد وتمرد على الأحكام وسخرية من القدر