الناس مرهِقون منهِكون، الآخرون لعنتنا التي لا نقوى على هجرها. فمهما بلغت حدود التطرف في عشق العزلة وتقديس الوحدة يكون واجبك الأساسي كل يوم مخالطة أشباهك. رؤية وجوه تشبه وجهك وأصوات تذكرك بأن في حنجرتك صوتا يرغب هو أيضا في الثرثرة.

تغرق في الجموع شئت أم أبيت، وتنجرف مع أخبار لا تعنيك وأسرار لا تعرف أصحابها وقصص قضى أبطالها نحبهم حتى قبل أن تستقر في بويضة أمك. محكوم عليك بصلة الأرحام، أرحام قد تكون سببا في شقائك وهزيمتك وأثقال تضنيك. هل يعقل أن تحرص على علاقات سامة تكاد تفنيك؟

ترى أن الحال لا يجب أن يستمر على هذا النحو، غير أن قدرك يرى شيئا آخر لا تدركه. مجبر أنت على طاعة الشيوخ والعواجيز واحترام هلوساتهم المنفصلة عن العصر وتنفيذ أوامرهم التي تفتقر للمنطق والعقل لمجرد أن شجرة عائلية لعينة تجمعكم. مسابقات البر التي تقام دوريا في الأعياد والأعراس، يفوز بها المتفانون في الحفاظ على تراث الأجداد وحماية تاريخهم، فيتحول الحفدة لنسخ عن الغابرين من أسلافهم ويحيا الأموات من خلالهم. لا يعنيك كل ذلك فأنت ابن كافر بمنطق الأبوة، يرهقه حكمها وتسلطها وتدخلها في التفاصيل التي لا تخص أحدا سواك.

تهرب من أبوة العائلة الكبرى المتعبة، فتجد الآباء منتشرين حيثما وليت وجهك. مديرك أب كبير يرخي سلطته وسطوته فوقك، وسائق سيارة الأجرة أب يدفعك للصمت حتى لا يعلو صوتك ولا رأيك فوق رأيه ولو لعشر دقائق يقلك فيها لمسكنك. معارفك آباء يبسطون بركتهم أو -لعنتهم- داخل كيانك، يوجهونك كمقود وينصحونك كقاصر.

تتعلم، عزيزي القارئ، أن تقدس الكبار لأنهم كبار والتاريخ والموروث لأنه قديم، تُلقن تقبيل أيادي العواجيز والتسليم بخرافاتهم لأنهم سبقوك إلى هذا الوجود. تدير جدة أمية حياة فيلق من الأبناء والأحفاد منهم من أنهى تعليمه العالي، فتقرر الزواج والطلاق والوظيفة وعدد الأطفال وأسماءهم. وتحمل ورقة السخط والرضى في وجه الممتعضين. يحيل أب حياة بناته لجحيم مستعر إرضاء للشيوخ المرابطين بالمقاهي وأمام أبواب المساجد، يطبق قوانينهم على ذويه لينال تأشيرة القبول من تحالف الآباء المبجل. تنهار علاقات أخوة وبنوة وحب لأن المجتمع – الأب الأعظم – يغمس أنفه في أدق التفاصيل يحدد ويقرر ويطبق، منذ الولادة حتى مكان الدفن.

تحاول وتحاول عدد أنفاسك التحرر من هذه الورطة، وتجبن أمام شبح العزلة الذي يهددك إذا ما فكرت في هجر كل الآباء وعقوقهم. شعور النبذ الذي سيعتريك متعب، وأذى قطعان كبيرة من الأبناء المستلبين بآبائهم سيصيبك لا محالة. ثم تذوب كقطع سكر بني بين أشباهك وأندادك، تعتريك لحظات صحو عابرة، تلعن فيها كل ما يتحرك أمامك ثم تعود فاتحا ذراعيك مستسلما للآباء الأحياء منهم والأموات.