بين الزوايا المغلقة , في الظلام وبين مترِِ ومترٍ ونصف جلست هناك أًعد الزمان بعدما اختبأ مني , واحد ..اثنان..ستون ,ستون ثانية دقيقة , والدقيقتان مئة وعشرون ثانية , حتى ألفِِ وثمان مئة, لقد مرت نصف ساعةِِ بالفعل بين هذا الظلام وغياب القمر والشمس والحرية في الزنزانة.

لقد كنت هنا منذ أسبوعِِ حسب تقديري في زنزانة ِِ منعزلة وصلت اليها بعدما اقتحم الاحتلال بيتي في الساعة الواحدة صباحاً بعد منتصف الليل بتهمةِِ لا أعرف عنها شيئاًً سوى أنهم لفقوها لإخافة أطفالي وابعادي عنهم ..

بت أخاف .. أخاف من الوقت والثواني والدقائق كلما استمرت بالتسلل إلى خارج الزنزانة والفرار بعيداًً لتسلبني أيامي مع مرارة الوحدة ومع نفسي, في مستقبلِِ مجهول مع جدرانِِ أربعة .

حوالي الساعة الثانية مساءًً تُقدِمُ سلطة الاحتلال لي الطعام ولولا الحرام ما أقول عنه طعاماًً , كسرةٌ خبزٍٍ قديمة وطبق صغير من الأرز الذي لا أعلم أين تم وضعه أو تحضيره ليبدو بهذا الشكل السيء إن لم يكن الأسوء , ولكنني أعيش رغم ذلك وعلى الرغم من أن معدتي لا تمتلىء وحرماني أحياناًً من الطعام , والحمد لله فحالي كحال كل الأسرى نعيش ونتغذى على كفاحنا وصمودنا كوننا أسرى فلسطينيين , ورغم انقطاع نور الشمس فنور الأمل يحيينا على أمل الحرية , أما رؤية القمر فتخيل الأحباب يكفينا.

الليل والنهار يمضيان والوقت يمضي دون أن أعرف للنوم حيلة إلا ما قل من الساعات في ذلك المكان الضيق والأرضية الصلبة , اشتقت للبيت وإلى زوجتي وأطفالي فلقد مرت ثلاثة أشهر بالفعل دون أن أدري أو أعي ذلك.

من بين الأشياء التي اشتقت لها صوتي , لا يوجد من أحادثه سوى نفسي , ففعلت ذلك وبدأت أتحدث وأزيل كل ما في نفسي إلى نفسي! , لكسر حالة الصمت التي تزيد السجن قبحاًً وأسراًً , فالاحتلال يحاول عزل الأسرى حتى عن ذواتهم.

أحياناًً كنت أنشد الأشعار التي تخص محمود درويش فأزود نفسي بالأمل حين أقول سطوره عن حب الحياة "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا"وأحياناََ كنت أغمض عيني لأتمتع بتخيل ورؤية أطفالي وأحياناََ أخرى أزود قلبي بالإيمان والصبر مع تلاوة ما أحفظه من آيات ِِ من القرآن الكريم فتخفف عني صعوبة الأسر .

لم يكتفِ الإحتلال بوضعي في تلك الزنزانة وحرماني من حقوقي بل أخذ في تعذيبي شيئاََ فشيئاََ حتى طبع على جلدي آثار السوط والضرب, ولكن قبحهم الله ما قللوا من عزيمتي إلا أن زادوها.

بعد مرور ستة أشهر أدركت أن السجون هي مختبراتُُ لزرع الأمراض والآفات والإصابة بالجنون فهذا هدفها الأسمى .

مع مرور الأيام بدأ الخوف يصيبني حينما تذكرت قصة أسيرِِ خرج من العزل الإنفرادي دون أن يتعرف على أحد حتى أمه التي أخذت تبكي عليه طيلة واحدِِ وعشرين سنة من أخذه من قوات الإحتلال , بَيدَ أنه كان يردد كلمةََ واحدة " فلسطين" لم ينسى أنه فلسطيني ولم ينسى وطنه رغم الألم ورغم نسيانه لنفسه واسمه ولكنه يعلم أنه "فلسطيني" وحينها ضحكت رغم كل شيء حينما قلت ساخراََ " الزهايمر لا يصيب أسرى فلسطين " فرغم أنهم يسعون بكل الطرق لمحو هويتنا إلا أننا ننسى كل شيءِِ ولا ننسى هويتنا الفلسطينية كوننا من أرض الكفاح , ربما أول الحليب الذي أرضعتنا إياه أمهاتنا كان يحتوي على هويتنا وحب الوطن الذي تخلد في كل جسدنا , ولذا ولأنني لا أعلم كم سأبقى هنا بعد فمهما يصيبني فلم أعد أهتم فمهما فعلوا ومهما أصابني فالشيء الذي لن أنساه أني فلسطيني والكفاح لوحده من أجل هذا يستحق مرارة العيش وقوة الصمود .

في الأسبوع الماضي حدث وأن أخرجوني الى الفسحة والتي كانت لعشر دقائق فقط ومرةََ في الإسبوع وفي الساحة الصغيرة المغلقة , التقطت طبشورةََ عن الأرض وخبأتها فبدأت أكتب في زنزانتي وأحل مسائلاََ رياضية حتى لا يصيب عقلي الخمول بعدما مررت بما أنا فيه .

عانقت الشمس وعانقتني هي بدورها ولامست العشب البارد بقدماي , ورأيت زرقة السماء والغيوم والشجر والحجر والأهم أنني استطعت أن احتضن أولادي من جديد وأن أرى زوجتي وعائلتي بعد مرور سنةِِ كاملة وبضعة أيام في العزل الإنفرادي وفي الحبس.

بعد دعواتي الكثيرة وفي كل ليلة أن يفرج الله حالي ويعيدني إلى عائلتي وبيتي سالماََ لهم وأن يبقيهم بخير إلى أن أعود , جاء صباح أحد الأيام الذي قرر حارس السجن بأمرِِ من سلطة الإحتلال أن يتركني بحال سبيلي , فعدت حراََ بعد ذلك العذاب.

تلك السنة والأيام غيرت في الكثير , ومهما كان مني إلا أن كرهت الإحتلال أكثر في كل يوم كان يمضي هناك , فكان كرهي لهم يزيد رغم أنه كم كثير , ومن بين الأمور التي باتت في بعد ذلك أن قَدَرت كل يوم أعيشه حراََ وكل يومِِ أرى فيه ما حرمت منه هناك , وأن كنت أكثر وعياََ بقسوة السجن وإدراكِِ له حين عشت تجربة الأسرى فبت أشعر بكل فردِِ منهم أكثر من ذي قبل ولو أنني كنت أشعر وأتضامن معهم فالآن أشعر بهم أكثر .

فكم من أسيرِِ عانى مثلي في مصيرِِ لا يعلمه إلا الله وكم أسيرِِ يعاني أشد مما قاسيته .

فلتكن دعواتنا مع أسرانا ولنحمد الله على ما بين أيدينا من حرية .