من الممكن نظريًا أن يكون هناك فنانين قد عاشوا كل حياتهم وهم غير مبالين باحتمالية وجود جمهور، وكأن فنهم ملك لهم فقط. ويشهد التاريخ الأدبي على وجود فنانين مشهورين كانوا على وشك السقوط في هاوية النسيان بسبب أنهم لم يريدوا أن يُعرفوا أو يطلع أي أحد على أعمالهم. فمثلًا «كافكا» أمر في وصيته بحرق كل أعماله ومخطوطاته، وأيضًا تركت «إيميلي ديكنسون» مئات القصائد في خزانة سرية لم يتم اكتشافها إلا بعد موتها.
ولكن حتى «كافكا» و«ديكنسون» تركوا ما يكفي من علامات الوجود الأدبي للعالم الخارجي مما جعل من أمر اكتشافهم بعد موتهم ممكنًا، بل وربما لا مفر منه. وقد يرى البعض أن هذه الأفعال تدل على التواضع مقارنة مع الترويج الذاتي الصارخ للعديد من الفنانين، ولكن يمكن اعتبارها أيضًا شكلًا من أشكال الإغواء، وكأن هؤلاء الكُتاب قد لعبوا الغميضة مع الأجيال المستقبلية، وأعتقد أنهم كانوا سيشعرون بالفزع لو تغير الوضع، وعملت حيّلهم بشكل جيد ولم يقرأ أحد على الإطلاق أعمالهم.
وبالطبع لا يمكننا اعتبار هذا نوع من أنواع الانانية أو الضعف؛ فالحقيقة أن هناك شيئًا مشترك بين جميع الحرف الإبداعية وهو رغبة صانعها في أن ترى أعماله النور يومًا ما، سواء استمر الفنان في البحث عن الدعاية أم ظلت تلك الرغبة دفينة.
ولكن هناك مقولة استوقفتني للكاتب الأمريكي «دون ديليلو» وهي: «الكاتب يقود ولا يَتبع»، وكان يعني فيها أن الفن يجب أن يكون نابع فقط من وجدان الكاتب ومجرد من كل التأثيرات الخارجية بما فيها رأي وصوت الجمهور. ولكني لم أجد هذا منطقي بشكل كافٍ؛ ولنأخذ «شكسبير» على سبيل المثال والذي كان هدفه الأول ومعياره للنجاح هو تحريك الجمهور. ثم أن كتابة قصيدة او تأليف كتاب هو عبارة عن ترجمة للمكنون الداخلي، وتجسيد للإحساس، وهو الإرث الذي يتركه الفنان وراءه ولا ينضب أبدًا. والفن هو شكل من أشكال التواصل؛ والتواصل لا يمكن أن يكون مستقل تمامًا.
التعليقات