الكتابة روح كما القراءة تماماً. أكتب لأسمع صوتي الداخلي بعيداً عن أصوات الحياة التي لا تنتهي. أكتب لأجلس مع نفسي وأسطر عصارات الأفكار على الورق، أكتب لأنني أحب أن أكتب ولأن الكتابة فرصة عظيمة للنقد الذاتي ومراجعة النفس. الهدوء الذي يحيط أجواء الكتابة قد لا يتوفر في أي لحظة أخرى فبعد أن أنتهي من الكتابة أرجع إلى صخب العالم بكل مافيه من ملهيات. يستشفي البعض بالصمت ونحن نستشفي بالصمت المرافق للكتابة فنضرب عصفورين بحجر واحد. 

الكتابة تعني مرات عديدة من راحة البال والهدوء والتناغم مع النفس. مرات عديدة من التصالح مع القلم والأوراق. ولإنجاز تلك المهمة أفكر ثم أفكر ثم أفكر ثم أبدع في استخلاص الأفكار واستحداث مواضيع أستطيع أن أكتب عنها. عندما أترجم مقالات لا أشعر بتلك المتعة التي أشعرها عندما أسطر في المقال بنات أفكاري فقد لا يكون أسلوب الكاتب متوافقاً مع أسلوبي وقد أضطر للخروج عن طبيعتي في الكتابة حتى أنقل الكلمات من لغة الكاتب إلى اللغة العربية التي يفهمها القارئ. وهذا لا يشعرني بالراحة فكتابة تجاربي بقلمي أكثر ثباتاً وصدقاً.

من الأشياء الجميلة التي تعلمتها من الكتابة أن أُنهي كتابة المقال في يوم واحد دون تأجيل غير مبرر. وبعد الانتهاء أقرأه كمقال متكامل للوقوف على مواطن النقص وما يحتاج لتعديل، ليس هذا فقط بل أغير المكان وأشغل نفسي بأي مهمة بعيدة عن الكتابة ثم أعود لقراءة المقال مرة أخرى وحتماً لابد أن أضفيَ عليه بعض التغييرات والتعديلات فهذه الطريقة تعطي الكاتب فرصة لضبط أفكاره واستلهام المزيد، كما أنها تجعل المقال أكثر تماسكاً وترابطاً. 

في الحقيقة َحتى أكون واقعية فالتجربة ليست بتلك السهولة، أُشبهها بآلة تصنع الأفكار فما أن يدخل الآلة عنوان موضوع الكتابة حتى تبدأ بالعمل، مقدمة مشوقة، محتوى أنيق، كلمات منمقة، صدق في العاطفة، فقرات متنوعة، تجارب ملهمة، مروراً بتنسيق المقال وتهيئته ليكون جذاباً للقارئ فيحرص على قراءته كاملاً بكل شغف، إنها مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة. تحتاج لجهد وتركيز واهتمام بتلك الآلة حتى تُخرج أفضل ما لديها ثم تسكن قليلاً ليبدأ عملها للمقال التالي. ليس كل المقالات مشوقة وليس كل الكُتاب يملكون أساليب التشويق، شخصياً لا أستطيع أن أترك حرفاً مما كَتب بعض الكتاب المبدعين دون قراءة لأنني إن فعلت أشعر وكأنني أضعت فوائد عظيمة. فكل حرف من حروف مقالهم تملك معاني جميلة ومنافع جمَّة. في المقابل هناك كُتاب أتقنت معهم مهارة القفز فليس كل ما كتبوا يستحق القراءة. 

بالكتابة أعطي الفرصة لقلمي الحر أن يعبر عما أراه مفيداً ونافعاً. انا ضد أن أتوقف عن الكتابة لأن هناك من هو أفضل مني، فالمقال سيشد عضده بأخيه حتى يقوى، المقال تلو المقال سيغير الأسلوب والكلمات للأفضل، قراءتك لمقالاتك السابقة سوف تساعدك على تلمس مواطن الضعف وتجنبها بالتطوير وتحسين المستوى. فإن لم تكتب لقناعتك أن هناك من هو أفضل منك سيتحول نشاطك لبركة راكدة تحتاج لأعاصير التغيير حتى تستعيد نشاطها. لا تترك قلمك أبداً ولا تُركن نشاطَك جانباً اكتب حتى تشعر دائماً أنّ روحك مازالت حية تنعم بالسعادة والهدوء. سيقرأ مقالاتك عدد من الأشخاص مختلفو القيم والمبادئ والسلوكيات والثقافات وطريقة تقييمهم للآخرين، لذلك كن مستعداً لأي انتقاد وخذه بصدر رحب وابدأ بالتغيير وتجويد كتاباتك. فلا أحد معصوم. اختر عناوين مقالاتك كأنك تختار اسماً لطفلك، فالمقال له حظ من العنوان كما لطفلك حظ من اسمه. 

الدافعية للكتابة

قد نتردد في أولِ الطريقِ وقد نعتبرُ الكتابةَ مجازفةً سيذهبُ ضحيتَها القراءُ وأحياناً قد نخشى على القارئِ أن يدخلَ في متاهةٍ عندما نفكرُ مجردَ تفكيرٍ أنه سيقرأُ مقالاتِنا! لكن كلها أوهام ومخاوف فقط تأتي في البداية.

إن التجاربَ الحياتيةَ لا تنتهي إلا بانتهاء العمر، ففي كلِّ لحظةٍ تجربة واللبيبُ هو من يدركُ أهميتَها وماذا تصنعُ بالإنسان وماذا تغيرُ فيه وكيف تنتشلُه من القاعِ المظلمِ إلى السطحِ ليرى النورَ ويستمتعَ بالهواءِ النقيِّ الذي حُرم منه طويلاً إما لانغلاق تفكيرِه أو لطبيعةِ شخصيته. إنَّ التغييرَ مهما كان حجمُه صحيٌّ ومفيدٌّ. لا تخفْ من خوضِ التجاربِ فنحنُ بحاجةٍ للمغامرةٍ دائما ويلزمنا أن نُقْدِمَ ولا نُحْجِم والكتابة هي أحد تلك التجارب.