ذكر أمامي أحد الصيادلة أنه كان يملك في المرحلة الابتدائية صديقاً طيب القلب، له روح متسامحة، لا يعرف الأذى ودائم الوجود في الركن الهادئ من الفصل الدراسي، لا يسمع له صخب ولا يعمل مشكلة مع أحد، تطورت علاقتهما كثيراً، امتدت لخارج المدرسة لدرجة أنه كان يذهب معه لبيته البسيط ويجلس مع أباه وأمه ويتشاركا في بعض الأيام الطعام، ورغم أن الفارق المادي كبير جداً بينهما إلا أن أنه شعر بدفيء عائلته، ظلت صداقتهما ممتدة في المرحلة الإعدادية والثانوية، ثم فرقت بينهما الجامعة، فدخل كلية الصيدلة أما صديقه فقد التحق بكلية الطب البيطري، رغم الصداقة القوية التي تجمعهما إلا أن الصيدلي تناسى صديقه وانخرط في حياة الجامعة تماماً، وفي السنة الثالثة من الجامعة تفاجئ حين جاءه خبر موت هذا الصديق في حادث سيارة.. فقطع المسافة من الجامعة إلى بيته في غضون دقائق، وبكى كثيراً وهو يرى النعش يخرج من بيته، حينها فقط عرف كم كان يحب هذا الصديق!

وقال : رغم مرور أكثر من عشرون عاماً إلا أنني لا زلت أحبه..وأفتقده كثيراً إلى اليوم.

لا أخفي عليكم، لقد تأثرت بتلك القصة ورغم أنني تجاوزت العشرون عاماً منذ أشهر قليلة إلا أنني أقع في هذا الخطأ بحجة المشاغل، أتناسى أحياناً وأقصِّر مع البعض ويستيقظ حبي لهم من غفوته إذا مسَّهم ضرر أو توفاهم الله أو سافروا...ولعل تلك الحالة هي التي تحدث عنها ديستويفسكي معبراً عنها قائلاً بأنه لم يجد نظرات الحب الحقيقية إلا في المطارات والمقابر، هذا لأننا لا نشعر بقيمة الشئ إلا بعد رحيله. في تلك الجزئية، هل حدث لك موقف مشابه لموقف ذلك الصيدلي؟

في كتابه "السقطة" يحكي ألبير كاموا عن تلك الحالة بطريقة دقيقة جداً فيقول:

" ربما نحن لا نحب الحياة حباً كافياً ؟ هل لاحظت أن الموت وحده هو الذي يوقظ مشاعرنا ؟ وكيف أننا نحب الأصدقاء الذين غادرونا لتوهم ؟ وكيف نعجب بإولئك الأساتذة الذين لم يعودوا يتحدثون، بعد أن ملأ التراب أفواههم ! حينئذ ينبثق التعبير عن الإعجاب طبيعياً، ذلك الإعجاب الذي ربما كانوا يتوقعونه منا طيلة حياتهم. ولكن، أتعرف لماذا نكون دائماً أكثر عدلاً وأشد كرماً نحو الموتى ؟ السبب بسيط. فليس هناك إلتزام نحوهم. إنهم يتركوننا أحراراً."

هل تأملت هذا الكلام؟ إنه يحمل بعداً فلسفياً بحاجة لتأمل شديد، فالموت يوقظ مشاعرنا بالفعل وليس هذا فيما يخص الأشخاص فقط، بل الأشياء المادية كذلك، فالسيارة التي تعطلت مثلاً تعرفك مدى قيمتها، وكذلك يمتد هذا الأمر لعوالم أخرى، فنحن نَحنُّ للماضي كثيراً، بالرغم من أن هذا الماضي قد كنا وقت عيشه غير آبهين به، وكذلك إن كل ما ينتهي نشعر أكثر بأهميته الحقيقية التي كنا نبخسه إياها في وجوده أو نتجاهلها تماماً.

والآن عزيزي القارئ انتظر إجابتك على هذا السؤال: لماذا نتجاهل الشئ ولا نشعر بقيمته الحقيقية إلا حين ينتهي؟