بالاطلاع على السيرة الذاتية للكاتب باتريك زوسكيند صاحب هذه الرواية، أدركتُ مدى التشابه بين شخصيته التي لطالما مالت إلى الانعزال والبعد عن الشهرة، والفلسفة التي تتبنّاها الرواية حول قيم إنسانية مدمّرة مثل الفقد والروتين والخوف من المستقبل المجهول.

تتناول رواية "الحمامة" شخصية جوناثان، كأحد أبرز الأنواع النادرة من الأشخاص، حيث أنها تنطلق من نقطة الفقد الذي عاناه، سواء على صعيد فقد والديه، أو هجرة أخته، أو فرار زوجته مع رجلٍ آخر.

وفي هذا السياق نجد بداية لملحمة الوحدة التي عاناها جوناثان كنقطة انطلاق للقصة، حيث أن زوسكيند برع في تمهيد الطريق لقصّته من خلال وضع شخصيته في السياق المناسب تمامًا لها.

حينما يدمّر الروتين حياة الإنسان:

عندما قرأتُ الرواية للمرة الأولى بدا كل شيء واضحًا: جوناثان الرجل الوحيد، يعمل كفرد أمن في البنك، رجل روتيني محافظ ولا يغادر غرفته إلّا لأشد الظروف، ولم يتوان عن روتين عمله وحياته الرتيبة أبدًا. فقد كل شيء ولا يرى أي جدوى من الحياة.

وعلى الرغم من أنني لم أشعر بأي تشابه بيني وبين جوناثان، فقد رأيتُ في بداية ظهور الحمامة صورةً كاملةً لحياة كل منّا الشخصية، حيث أن مغامرته السيّئة تبدأ بظهور حمامة أمام باب الغرفة.

بالرغم من أن الحمامة دائمًا ما كانت تستخدم رمزًا للسلام والطمأنينة، فإن هيئتها أمام باب غرفة الرجل البائس كانت مسبّبًا لهلعٍ لا ينتهي، آل بالرجل إلى رغبة عارمة في عدم الخروج من غرفته، حتى وإن كان السبب هو العمل.

شعرتُ باختناق شديد فور انتهائي من الرواية، فعلى الرغم من استمتاعي بسرد باتريك، فقد عاصرتُ معه أزمة أن يعيش الإنسان حياة وظيفية رتيبة بلا أهداف، وتذكّرت تجربتي النفسية السيّئة مع العمل الوظيفي بشكل عام.

أدركتُ أيضًا أن هذا النوع من الحياة المهنية قادر على إنهاء كل شيء بداخلنا، حتى وصلت بإنسانٍ لأن يرى في رمز السلم والطمأنينة كابوسًا لا ينتهي.

إلى أي مدى يستطيع الروتين تدمير حياة الإنسان ولا يساعده على تخطي أزماته؟ وهل يمكننا التخلّي عن الروتين في حياتنا أم أننا في حاجة إلى نسبةٍ منه لضمان الاستقرار؟