(٨)

انظر حولي، لا شيء هنا يدعو للتأمل، العفونة تعبق في الاجواء، الضوء خافت جداً، لا أستطيع تمييز الوجوه ولكنني استطيع تمييز يداي، اسمع اصوات انين تختفي ثم تعود مجدداً بصوت اعتى، راسي ثقيل جداً، لا ادري اين انا او كيف وصلت الى هنا.

احاول ان اتكلم ولكن يخيل الي ان الكلام ثقيل جدا ولا قدرة لي على تحمله، اتلمس راسي فاصرخ من شدة الالم، واشتم رائحة الدماء على يدي: هناك اصابة في راسي لا ادري ما كان سببها او متى حدثت.

فجأة رأيت الحائط يتحرك، ما هذه الهلوسات؟ هل جننت؟ هل هو تأثير الاصابة؟ كيف لحائط ان يتحرك هكذا! 

لم تمض سوى ثوانٍ معدودة حتى اكتشفت ان ذلك ليس سوى بباب وان من قام بفتحه شخص غليظ الهيئة وثقيل المزاح.  

حتى هذه اللحظة لم استوعب بعد ما الذي يحصل او ما الذي حصل حتى اصبحت هنا.

برودة شديدة تلفح وجهي فجأة، انه ماء، اه اجل لقد تم رشي بماء مثلج بهدف ايقاظي ربما.

بدأت الأمور تتوضح حين رأيت المفاتيح المعلقة بالباب الذي ظننته حائطاً، وتوضحت أكثر حين ظهر شخص آخر فهمت انه الضابط بسبب النجوم المعلقة على بزته.

حسناً، انني مرميٌ في سجن. اجل سجن، من دون ال التعريف، لأنني لا ادري ولا افهم اين انا وكيف وصلت الى هنا على الرغم من ان سؤالي عن المكان الذي انا فيه يعدّ ابسط الحقوق الانسانية عالمياً، ولكن ليس في انظمتنا الديكتاتورية، حيث ان فكرة البقاء على قيد الحياة تصنف بحد ذاتها على انها جريمة.

حسناً، اذاً الآن ايضاً فهمت سبب رمي الماء البارد: انه طقس اذلالي للمساجين بهدف استقبال وارضاء سادية الظابط خدمة لتلك النجوم التي يتباهى بها!

لطالما كانت العناصر الامنية تستمتع بساديتها عبر اذلال الآخرين وذلك من خلال استخدامها لسلطتها في المنصب الذي تتبوأ.   

(٩)

نظر الينا الضابط بازدراء شديد، اظن ان ذهولي ودهشتي الساذجة قد استفزاه، فنظر الي باحتقار مضاعف واقترب ببطء ليفرغ لعابه على وجهي. 

كان صوته مرتبكاً، يعلو وينخفض بطريقة عبثية، لم افهم السبب، لطالما تصورت ان المنتصر يكون هو الهادئ والمنضبط، وفي حالتنا هذه كان الضابط هو المنتصر من دون منازع او هكذا خيّل لي بداية.

ولكنه كان مرتبكاً جداً، كل هؤلاء الذين يأنون من شدة آلامهم بدوا أكثر سمواً منه، هذا الصمت الرهيب الذي خيم على هذه الغرفة النتنة، واختفاء اصوات الانين وانفاس الكرامة التي حلت مكانها والتي كنت اسمعها واشتمّها، اشعروا الضابط بسخافته وبانعدام ثقته. 

  • تريد ثورة هيه؟   أوظننت نفسك خليفة لتشي غيفارا ام تراك تأثرت بدرويش وكنفاني وبالماغوط واعوانه؟ تلك الكتب غبية ايها الغبي! وأنتم اغبياء لمجرد انكم صدقتم الافكار الثورية تلك!  

قهقه عالياً جداً جداً، شعرت ان اوردة الدم في رأسي، المجروح اصلاً، تكاد تتفجر. كان يريد بضحكته تلك ان يخفي ضعفه الجلي وان يثبت رجولته امام عناصره اولاً وامامنا ثانياً. 

وددت لو أستطيع ان اطلب منه ان يصمت، او على الاقل ان يخفض صوت ضحكته، ولكن شيء ما في داخلي نبهني الى درجة غباء هذه الخطوة واجبرني على استشعار مضاعفاتها. ومن الجيد انني لم افعل لأنه في كل الاحوال ينصرف الآن غاضباً جداً بعد ما قام بإعطائي وابلاً من الشتائم والصفعات. 

(١٠)

-لم اعد اقوى على التحمل، احتاج لهواء نظيف. 

نظرت باتجاه الصوت، كان هناك أحد المعتقلين، على الاغلب انه كان ثائر ايضاً، مخبول اخر غيري انا، نحن من ظننا أنفسنا خلفاء لتشي غيفارا. 

بدأ هذا الشخص يبصق دماً، فهمت من صوت انفاسه وصفير رئتيه انه يعاني من التهاب رئوي حاد على ما يبدو.

لطالما كنت اخاف ان التقط العدوى من أحدهم. 

ولكنني لم اشعر بجسدي وانا ازحف اليه في محاولة مني لإنقاذه. 

ما الذي يجعلني غيريّ لهذه الدرجة؟ لطالما اتسمت بالأنانية المفرطة، ما الذي يحركني للمساعدة منذ ان التقيت بتلك الفتاة؟ 

  • ماذا يمكنني ان اقدم لك لتشعر بالتحسن؟ 

قلت هذه الكلمات للشاب، نظر الي بعينين واسعتين متعبتين، قد يكون هاله منظر راسي الغارق بالدماء، الراس نفسه الذي عملت خلاياه العصبية على امر جسدي بالزحف نحوه.

لم يقل شيئاً، لا زال صفير رئتيه مسموعاً، ابتسم عميقاً جداً ونظر حواليه كأنما يدعوني الى تفحص المكان من جديد، اوقف نظره على باب السجن، ذلك الذي اعتقدته باباً منذ قليل ثم أجهش بالبكاء. 

اجبرتني نظراته على التجول في هذه الغرفة متأملاً اياها. كنا ١٠ اشخاص في غرفة لا تتعدى مساحتها ال١٠ أمتار؛ حقاً كم ان انظمة الحكم ذكية ودقيقة في حساباتها. متر لكل شخص بالغ! يُضاف اليه عفونة تقطع الانفاس قد تودي بحياة هذا الشاب بين لحظة واخرى.

فجأة، قطعت حبل افكاري اصوات قذائف، هل أُعلنت الحرب؟ ثم سمعت هتافات مشوشة، اعتقد انها كانت مزيجاً من الكلام البذيء ومصحوبة بأسماء بعض الاشخاص. 

لم تمض الا ساعات معدودة على المقياس البشري الحر ولكن ابدية على مقياس المسجون، الا وكان الباب قد فُتح، وظهر خلفه العنصر الغليظ نفسه ولكنه بدا محنوقاً هذه المرة وقال: الجميع براءة، اخرجوا!!

لم استوعب ما قال ولذلك لم أحرك ساكناً، فجأة رأيت التسعة الآخرين يحملون جروحهم وبقايا ارواحهم ويتجهون كالصقور نحو الباب. فهمت حينها ما يفعله شعور رائع كشعور الحرية بنفس الانسان، هنا في هذه اللحظات بالذات، يتم نسف كل النظريات الاجتماعية والنفسية. فقط في هذه اللحظات شعرت ان هرم ماسلو قد ذهب الى الجحيم!! وانا الذي طالما آمنت به ايماناً لا يقبل النقض. 

(١١)

دسست نفسي بين "الهاربين الى الحرية" ووجدت نفسي في الخارج. الجميع هنا يعانق احبائه، هؤلاء الذين اتوا لإنقاذه. أدركت حينها حجم وحدتي، اكاد اجزم لو تمّ القبض عليّ وحدي لكنت امضيت بقية سنوات عمري في هذا السجن لأموت وحيداً متعفناً. فرحت بطعم الحرية الذي لم استشعر نعمته يوماً عليّ سابقاً ولكنني حزنت على نفس اقل ما يقال عن وحدتها انها وحيدة وحيدة.

سقطت دمعةً مني! يا إلهي! انني ابكي! انا الذي ظننت لسنوات ان مآقي الدمع في عيوني جفت، وان احتمال نزول دمعي معادل لاحتمالية هطول المطر في الصحاري. 

مسحتها سريعاً وتأملتها مرحّباً، انا الآن على وشك ان اتغزل بدمعة! ولكن صوت من ورائي قطع كل هذه الافكار. 

  • لقد خرجت اذاً، لم نفرّط بكم لحظة، لقد تبعنا العناصر الامنية على الرغم من كل التنكيل الذي اُلحق بنا.
  • هالة!! انت مجدداً، ماذا حصل لجرحك؟
  • ضحكت، الجرح الخارجي يلتئم سريعاً جداً، ولكن المهم عدم الاصابة بجروح داخلية. هيا، تفضل يجب ان تأكل شيئاً، اعتقد انه مرت ايام منذ ان دخل جوفك شيء.

لم افهم ما تقوله، اظنني فقدت ذاكرتي مؤقتاً، استشعرت هالة ذلك بحدس الفتيات الذي قلّما يخطئ. 

  • لقد كنت فعلياً قائداً للثورة في الايام الثلاثة التي خلت. خاطرت بنفسك من اجل الكثيرين. واصبحت رمزاً عندهم جميعاً على الرغم من انهم لم يتعرفوا على وجهك اذ كنت ملثماً طوال الوقت، ولكنني عرفتك دائماً من عينيك. 

هؤلاء الذين رأيتهم امام المخفر جاؤوا بغالبيتهم من اجلك، ولكنك مغفل، كنت خجل من ان تكشف عن هويتك ومضيت وحيداً! احمد الله انني عرفتك والا لكنت الآن من دون رفيق.

ذهلت من كلماتها، لم اتوقع يوماً ان يحصل لي هذا. سعادتي في هذه اللّحظة عادلت سعادتي عندما حصلت على دراجتي حين كنت في السابعة من عمري. حقاً، ان الأشياء التي تقوم بها من اجل الآخرين هي التي تجعلك سعيداً حقاً، انانيتي لم تجلب لي يوماً شعوراً بالسلام الداخلي كهذا الذي استشعره الآن. 

(١٢)

الآن انا في بيتي الجديد، في بلد جديد، غريب عني، اردته ان يكون غريباً عني وان يكون كل الذين حولي غرباء. الشيء الوحيد المشترك هو لحظة الغروب هذه والتي طالما كرهتها، كانت تثير فيّ كل انواع المشاعر والذكريات. لكم وددت ان اقتطع هذا الجزء من الايام، لتصبح من دون مغرب.

اتذكر آخر محادثة بيني وبين هالة في المطار: انا مغادر يا هالة، لقد استنزفت، لم يبقَ لي شيء هنا.

 اذكر دموعها، وتوقفها عن محاولة اقناعي بالبقاء وتوديعها الخجول لي. 

اذكر تلك اللمحة الاخيرة على بلدي من نافذة الطائرة، اذكر انني اقسمت حينها على عدم العودة الى ديار الخراب هذه.

فجأة يرن هاتفي، انها هالة! 

دائماً تجيء هالة في غمرة افكاري، لا يمكن ان تتذكرني الا وانا مسترسل بالأفكار وغارق في عوالم اخرى منفصلة عن الواقع.

صوتها يرقص فرحاً في الجهة المقابلة. 

رمت كلماتها في اذني رمياً: 

ان الوباء الذي اصاب البشرية والذي ضجت به كل وسائل الاعلام، قد اهلك من اعتقدوا أنفسهم انهم فراعنة زماننا، واصاب ابنائهم ايضاً، انها لعنة الفراعنة مجدداً يا صديقي! حقاً ان الله يمهل ولا يهمل! 

يمكنك العودة الآن، قد يصبح الحلم حقيقة.

تفكّرت في قسمي وانا على متن الطائرة. ان الله يغفر لعباده ان كانت نيّاتهم خيراً!!