في ظل انفجار التطورات التقنية، وسرعة التحوّل الرقمي، أصبح من السهل أن ننبهر، ومن الأصعب أن نحتاط.
لكن ثمة سؤال جديد يفرض نفسه بقوة:
هل ما يمكن فعله… يجب فعله؟
لسنا في أزمة ابتكار. نحن في أزمة تقييم أخلاقي للتقدّم.
نحن لا نخشى التكنولوجيا لأنها قوية، بل لأننا بدأنا نفهم أنها – أحيانًا – تتقدّم أسرع من قدرتنا على تحمّل نتائجها.
ولذلك برز مفهوم جديد بهدوء… لكنه سيغيّر وجه الحضارة:
“الأخلاق الاحترازية.”
⸻
ما الأخلاق الاحترازية؟
إنها ليست أخلاقًا تقليدية تحكم السلوك الفردي، بل وعي جديد يستبق الخطأ قبل أن يقع.
ليست قائمة على تجربة الألم، بل على تخيّل الألم الممكن.
هي أن تتخذ قرارًا اليوم بناءً على كارثة لم تحدث بعد.
أن تُقيّم أثر اختراع لا يزال في طور البرمجة.
أن تتنبأ بخطر في نظام لم يُطلق بعد.
⸻
لماذا ظهرت الآن؟
لأننا لأول مرة نعيش زمنًا لا تمنعنا فيه القدرة، بل الرؤية.
صرنا نقدر نعدّل الجينات، نبرمج العقول الاصطناعية، نصنع محاكاة دقيقة للعاطفة…
لكن السؤال أصبح:
“ثم ماذا؟ ماذا سيحدث عندما يصبح الإنسان محاطًا بكائنات تحاكيه دون أن تفهمه؟”
لقد وُلدت الأخلاق الاحترازية من رحم التراكم.
حين تكررت الأخطاء نفسها في كل ثورة علمية:
– أولًا الانبهار
– ثم التوسع
– ثم النتائج الجانبية
– ثم العودة المتأخرة للأخلاق
لكن هذه المرة، قررنا عكس المعادلة:
أن نبدأ بالأخلاق… قبل أن ننتظر الألم.
⸻
كيف نمارسها؟
الأخلاق الاحترازية لا تعني التراجع، بل التروّي.
هي أن تقول للذكاء الاصطناعي:
“لن أرفضك، لكن سأقيدك قبل أن تنمو خارج سيطرتي.”
وأن تقول للهندسة الوراثية:
“لن أُقدّسك، لكني لن أطلقك دون حدود إنسانية.”
وأن تقول للروبوتات العاطفية:
“لن أُحبك… لأنك لا تستطيع أن تحب.”
⸻
التحدي العميق
أن تنجح هذه الأخلاق… يعني ألا يشعر أحد بالحاجة إليها.
لأنها تمنع الكارثة، فيبدو العالم “طبيعيًا”.
لكن ما لا يُرى… هو ما كان سيقع، وتم تجنّبه.
لهذا كثيرًا ما يُساء فهم هذا الوعي:
“أين المشكلة؟ لم يحدث شيء!”
ونرد: “لأنه لم يحدث… فنحن نجحنا.”
⸻
خلاصة
الأخلاق الاحترازية ليست فلسفة خوف، بل فلسفة رؤية بعيدة.
هي أخلاق الذين يفكرون نيابة عن المستقبل، ويضعون الأسوار قبل أن تبنى الجسور.
هي آخر ما نملكه كبشر في زمن تتفوّق فيه الأنظمة على المشاعر، وتسبق فيه البرمجيات المعنى.
وربما… ستكون الأخلاق الاحترازية، لا الخوارزميات، هي ما يُنقذنا من أنفسنا.
ما دام الإنسان يستطيع أن يفعل شيئًا، سيفعله… حتى لو عرف خطره.
هذه هي مفارقة المعرفة البشرية:
نكتشف الخطأ… ثم نكرره، لأننا نريد أن “نجرب بأنفسنا”.
وفي النهاية، التجربة عند الإنسان أقوى من التحذير.
• قالوا لهم إن القنبلة الذرية كارثة… فجرّبوها.
• قالوا لهم إن تعديل الجينات سيفتح أبوابًا لا تُغلق… ففتحوها.
• قالوا لهم إن الذكاء الاصطناعي سيخرج عن السيطرة… فبنوه بدقة أكثر!
السبب؟
لأننا لا نصدق إلا حين “يقع الفأس في الرأس”.
نحن كائنات لا تتعلم من الكتب فقط، بل من الندم أيضًا.
لكن الفرق اليوم هو أننا نملك أخيرًا:
“وعيًا بحدودنا قبل أن نصطدم بها.”
وهذا هو دور “الأخلاق الاحترازية” الحقيقي:
ليست لمنع الجنون تمامًا، بل لإبطائه… لعله يفكر قليلاً قبل أن يضغط الزر
التعليقات