لم أتوقع في يومِ ما أن أقرأ بأن يقال بأنّ الانسان ينتمي إلى الحضائر، ولكن هذا ما قاله الفيلسوف الالماني المعاصر بيتر سلوتردايك، ويبدو بأنه أحدث ضجة مهولة في الأوساط العلمية والفلسفية عندما القي محاضرته المثيرة للجدل والتي تحمل عنوانا صادما ( قواعد الحضيرة البشرية: في الرد على مقالة "الإنسانية" لهايدغر ) في ندوة علمية مخصصة لمناقشة فيلسوف القرن مارتن هايدغر، يطرح سوتردايك مشكلة لا إنسانية البشر التي وصلوا إليها بفعل الانغماس في المطامع والنزعات الأنانية بالتواطؤ مع الأنظمة والتكنولوجيات، فيقول أن المشكلة الأساسية التي يجب أن تركز عليها كل جهودنا هي كيفة تروض البشر ليصبحوا مواطنين صالحين، فهو يعتبر بأن الإنسانية الحديثة في حالة معركة ثابتة بين البهيمية وترويض النزعات، والبشر ذئاب ضد بعضها بعضا كما يقول هوبر، يقتلون وينهبون ويعتدون بوحشية من غير ضمير، وأشرف الأشراف منهم كذوب أو لا مبال بغير مصالحه، فما الذي يحول الذئاب إلى كلاب ودودة؟ 

سلوترديك يعتقد أن الطريقة الوحيدة لحل هذه المشكلة واستعادة الإنسانية هي قراءة الكتب الجيدة لتهدئة الوحشية الداخلية، وبالتحديد قراءة الأدب والأعمال الخالدة، الرسائل السميكة من مفكر كبير لآخر، والوصايا الحكيمة، التي توفر نموذج الحكمة التي تمكن الإنسان من رعاية أخيه الإنسان وحبه وصداقته والعطف عليه بقوة الحرْف والكلمة.

لكن المشكلة التي تواجهنا من جديد هنا، أن الحكماء والعقلاء قد تخلوا عنا وتركونا لمصيرنا المحتوم في الوقت الحاضر، ولم يعد أمامنا سوى العودة للأرشيف والمحفوظات، وليس الحكماء الجدد، وهنا يبرز القراءة والكتابة كأهم وسيلة للنقل والتعلم والوساطة بين البشر وتاريخيهم الفكري، ولأن ناقل الإنسانية هذا هو المخلص الوحيد وقارب النجاة الأوحد للبشر من أنفسهم ووضح دود بين البربرية والحضارة، علينا أن نعرف من هو الناقل؟ .

بالنسبة الى سلوتردايك، لا تعد الإنسانية جوهر متأصل تماما في البشر، بل هي تعتمد على درجة معينة من النواقل وبالتحديد الأدب، ما يعني أن الإنسانية تُعلم وتكتسب تدريجيا لتصل إلى أعلى درجاتها بين أعضاء المجتمع المتعلمين بروابط الصداقة والتكافل والحب، وهنا يذكر يذكر أثر وسائل الإعلام على مفهوم الإنسانية نفسه، وإضعاف أثرها أكثر واستبدالها جزئيا بقوى جبارة، فتم استبدال الكتب والرسائل التي ترسل من مسافات طويلة وحوارات بين الأجيال، تم استبدالها بتراكيب سياسية واقتصادية نفعية معقدة، التي قضت على المجتمع الحرفي – نسبة للحرف- والثقافة الكتابية، ما أدى الى زعزعة المنظومة الاجتماعية والعلاقات من أهمها الصداقة الحقة بعد إدخال أجهزة الراديو والتلفزيون وطرق الإرسال القصيرة واللحظية التي سوف تمسح كل معالم الإنسانية المتبقية قريبا، وإذا لم يجد البشر طريقة ما لاستعادة نواقل الحكمة فسوف تعود البشرية إلى أسوء مستويات الوحشية وبالتالي انهيار الحضارة إلى الأبد.

هل تُؤيد سلوتردايك في وصفه للمنظومة البشرية الحديثة بالحضيرة؟ هل تظن أن هذا التوصيف هو أسلوب دقيق للتعبير عن حال البشرية اليوم أم أنه مجرد تصريح غرضه اللفت الأنظار والشهرة؟