أصبحت سرعة التطور الفكري هي حديث العصر وهي أيضا نقطة خلاف وصراع جدلي لامنتهي ، بل وإنها من أهم القضايا التي لم تهدأ عبر مرور الزمن ولايزال الصراع مشتعلاً إلى الآن بين حاجة الإنسان لذلك التطور وبين مخاوفه من آثار نظرياته على مجتمعاتنا ، وتعود الجذور الأولى لذلك التطور حينما كان العرب في حالة فوضى وهزائم متتالية بعد خروج المسلمين من الأندلس بينما كانت أوربا تعيش نهضة في التطوير الفكري ، فقدمت مئات الإكتشافات والأبحاث و مرت بالعديد من الإخفاقات وسوء القراءة فمثلاً كان من الصعب إقناع الأفراد بأنه لاعلاقة لحجم الرأس بنسبة الذكاء وكان يتم اختبار ذكاء الأطفال وتطور قدراتهم الذهنية حسب تطور محيط الرأس !!! و عند اختراع أول آلة كاتبة في أمريكا ظهرت العديد من المجتمعات الرافضة لها ظناً منهم أن الآلة الكاتبة سوف تأثر على قداسة ذاكرة الإنسان !!

فانقسم المجتمع بين ثوار ضد الحداثة ينادون بحقوق الإنسان ومطالبتهم بعدم إنتهاك ذاكرته المقدسة وبين مؤيدين لكل مافيه تطور لميكانيكية العقل البشري ..

لكن التطور الكبير والاكتشافات الجديدة المتتالية في شتى المجالات خرجت عن السيطرة على حد تعبير الفئات المعارضة ، ففي بداية الأمر تحدثت الحداثة وحركات التطور الفكري بعقلانية ومنطقية عن ترتيب حياة الإنسان وتحسينها دون الخدش بذاته (كونه هو جوهر كل شيء ).

ومن ثم دخلت السياسة معترك الصراع ولحقتها نظريات الرفض والتشكيك في التاريخ وحملات المقاطعة والاستعمار والتسوية بين كائنات الأرض ( حيوان ، شواذ ، نبات ، امرأة ، رجل ) ، كما أسهم الإعلام سلباً في ازدياد اعداد تلك النظريات وتغذيتها .

كل يوم يطلق العنان لسلوكيات جديدة حتى وإن لم تحمل مفهوماً واضحاً ، ينساق خلفها مجموعة من الأفراد يريدون الحصول على عطاءات ذلك التطور حتى لو كلفهم التخلي عن قيمهم كنوع من المغامرة وحب التجديد ..

ولذلك لم تستطع الحداثة رسم خط نظيف لها فقد سحقت في طريقها الكثير من المعايير والقيم وسلبت الحرية التي كانت أصلاً تحث الإنسان على التشبث بها في بداية الأمر !!!

حيث قال نورين ( انها تطورت ضد ذاتها ) ، ناهيك عن أنها أنتجت حربين عالميتين ..

واستمرت الأمور بالتطور حتى تغيرت مفاهيم الإنسانية وأدت إلى بداية عالم من الانفتاح الواسع ، وتراكمت القضايا المبهمة والمتناقضة وازدات الإنقسامات داخل المجتمع والعائلة حتى وقفت الحداثة في قفص الإتهام .. وفي ذلك تحدث العديد من الفلاسفة وتوصلو إلى أن التطور الفكري نقي وطاهر في شكله الأولي وبريء من ماينسب إليه ، ويمكن توظيفه في تخصيب العقل البشري لإنتاج أفكار ترقى به ، لكن الإنسان إستخدمه حسب مصالحه فبدل كبح الفساد أوجد فرصاً جديدة له وبدل إيقاف العنف قامو بإنتاج وتطوير الأسلحة وترخيصها لتكون في متناول الجميع ..

تلك الحداثة الغربية بكل مافيها غزت عالمنا العربي ودخلت بيوتنا بطرق عنيفة وقدمت لنا الجانب السيء منها كالإنسياب تحت مسمى الديمقراطية وغيرها من الشعارات والمسميات الخيالية .

ولم ندرك حتى اليوم أنها قدمت لنا مجرد قشور ولازلنا نفتقر لأسباب النهوض الحقيقة وعوامله ....