من الأمور الهامة التى يجب أن ندركها أن الفلسفة اللاكتراثية بكافة أشكالها هى أحد أهم مظاهر وتجسدات فلسفة ما بعد الحداثة فهى تعد نوعا من ردة الفعل على الحداثة وإشكالياتها واخفاقاتها العميقة فى حل المشكلة الإنسانية ،،

والفكرة اللااكتراثية وإن كانت موجودة سابقا على الحداثة وما بعدها إلا أنها لم تنتشر ذلك الانتشار الواسع إلا بعد فترة مابعد الحداثة ،،

ولكى ترتبط الأمور أكثر ببعضها لا بد لنا من معرفة ما بعد الحداثة ،، 

وما بعد الحداثة كما يظهر من المصطلح :

 هى ردة فعل على الحداثة وإعلان لسقوطها ولكى يتضح معنى ما بعد الحداثة لا بد من معرفة شئ عن الحداثة ولو بشكل إجمالى وبسيط،،

فكما يقول الشاعر الحكيم

" وبضدها تتميز الأشياء"

 فإذا أردت أن تعرف شئ معرفة جيدة وواضحة عليك أن تعرف ضده أولاً حتى يتضح لك ما تريد أن تعرف ،،

 وعلى هذا فما بعد الحداثة هى ضد للحداثة والحداثة فى مجملها هى فترة سيادة العقلية العلمانية التجريبية على المجتمع الغربي والقول بأن كل موجودات العالم ما هى إلا  مجموعة من الذرات أو بمعنى أدق أجزاء لاتتجزأ مرتبطة مع بعضها بواسطة قوانين طبيعة آلية تعمل بشكل حتمى وميكانيكى صارم،،

فالعالم بما فيه أشبه بآله ميكانيكية عملاقة مكونة من عدة تروس تدور وفق قوانين آلية صماء ،،

ويمكن إدراك هذه القوانين والوصول إليها  بشكل دقيق وتام ونهائي عن طريق منهج العلم التجريبي القائم على الملاحظة والاستقراء وعلى هذا فأى موجود مهما يكن يجب أن يخضع لهذه القوانين وهذه الفكرة وإلا لا يمكن أن يُعد موجوداً فهو نوع من الأوهام والخيالات

ومن ثم لامجال من وجهة نظرهم للحديث عن فاعل مختار يدبر هذا الكون ولا للحديث عن روح إنسانية حرة تؤهله للتكليف والحساب و لا عن عالم آخر له قوانين اخري غير هذا العالم الطبيعى يذهب إليه الإنسان بعد الموت،،

فالإنسان ما هو إلا مجموعة من الذرات التى تنحل وتتفكك بموت الانسان فكل هذه الأشياء كانت عندهم من قبيل الأوهام،،

 فالطبيعة والمجتمع والتاريخ والإنسان وكل شئ هو خاضع لهذه القوانين الآلية كما كانوا يعتقدون ثم ما لبثت أن سقطت هذه الفكرة وتلك الفلسفة فى كل مجال من المجالات التى كانت تطبق عليها  فكان كل مجال تطبق فيه هو الذى يخرج من داخله ما يناقض تلك الفكرة وما يضادها

ومع كل هذا فقد كانت هناك فكرة كلية محورية مركزية وثابته تدور حولها فترة الحداثة وهى فكرة القانون الطبيعى الحتمى الصارم القابل للانطباق على كل شئ ،،

لكن بعد سقوط هذه الفلسفة بدأت تظهر ما بعد الحداثة هذه الفلسفة السائلة التى تعلن سقوط كل المرجعيات وكل الكليات وكل الثوابت والأطر وكل المراكز فالعالم فى حركة وتغير وسيولة مستمرة بلا روابط منطقية ولا غايات كلية ولا حتميات صارمة ولا حقائق مطلقة ولا أهداف عامة  ومن ثم فكل الأشياء نسبية ومتساوية القيمة ولا أفضلية لشئ على آخر مادام كل شئ زائل ومتغير وزائل و لا معنى للعلم بشئ لأن العلم نوع من الثبات والإنسان سائل ومتغير كالطبيعة فكيف إذن يصل العقل لحقائق ثابتة وكلية ثم كيف يمكن الحديث عن ذاكرة إنسانية كلية وتاريخ عام له أهداف فى عالم متغير وزائل. فهى إيذان بسقوط كل الثوابت وإعلان بالفوضى والضياع ،،

 ومما ينبغى العلم به أن ما بعد الحداثة مستبطنة تماما فى الحداثة بمعنى أن ما بعد الحداثة هى النتيجة الطبيعية للحداثة كما يشير أستاذنا الدكتور المسيري رحمه الله فما بعد الحداثة أخذت من الحداثة إنكارها لكل الحقائق التى تتجاوز العالم الطبيعى وقوانينه من إله فاعلٍ مختار وروح إنسانية مكلفة وحياة بعد الموت ثم زادت عليها إنكارها لكل الحقائق المطلقة وأية إمكانية للوصول إليها حتى داخل الإطار والنسق الطبيعى والمحسوس ،،

 وإذا كان كل شئ فى تغير وإلى زوال وإلى نسيان فما الداعى للاكتراث بأى شئ أو بأي فكرة كلية أو بأى هدف عام وهل يملك الإنسان وفق هذه الرؤية إلا لحظته الراهنة وما يمليه عليه هواه فيها،،

ومن هنا كانت اللاكتراثية بأشكالها المختلفة هى أحد ردود الفعل على الحداثة ويمكن أن نعتبرها من مظاهر ما بعد الحداثة