أستطيع القول و من خلال تعاريف عدة لماهية الحضارة : أنها عملية من التراكم المعرفى للإنسانية جمعاء ؛ اى أنها تمثل حصيلة مجهود الأمم كافة ، وهى بذلك تمثل علاقة الانسان بالكون على اختلاف الزمان و المكان .

ولكن ورغم جهود كل أمة فى النهوض بالمستوى المادى و الثقافى لأمتها و على مدار التاريخ ؛ فإن عملية النهوض تلك كانت ولازالت حتى الآن تنطوى على سلبيات جسيمة تفقر الإنسان ماديا و ثقافيا ؛ أى أن الحضارة فى طريقها التاريخى كانت دوما تنطوى على ما يناقضها ، أى ما يناقض طبيعتها التى تحاول أن تثرى الإنسان ماديا وثقافيا .

الشواهد على ذلك كثيرة منذ فجر التاريخ :

  • الحضارة الزراعية : و نستقى من مجلدات قصة الحضارة ل ديورنت الكثير من المعلموات التى نختصرها هنا بأنها كانت استقرارا حقيقيا وقويا حيث أن الشعوب التى عرفتها لم تعد تتنقل للصيد ، بل استقرت وبنت مدنا وقرى ومن هنا جاءت قيمة الأرض و أهميتها و نشات التقويمات و مراقبة الفصول و توزيع الأعمال .

أما عن الوجه الآخر لهذه الحضارات الاستعباد المقنن حيث بدأت المسألة بإغارة الأقوى على الضعيف وبدلا من الخطف و السلب صارت الهيمنة على الأرض و تشغيل الطرف المنهزم فيها حيث تتطلب الزراعة عملا شاقا ومع مرور الوقت تصير العبودية جزء أساسيا من الحياة الاقتصادية لأى أمة ، وهنا يظهر السؤال الملح ؟ ، إلى أى مدى كان هذا التطور إنسانيا ؟... نذكر هنا حضارات مثل سومر ومصر القديمة و الصين القديمة .

  • مرحلة الدولة الاسلامية : وهى ليست كيانا واحدا مستمرا ، بل كانت مراحل عدة إذا قسمناها من الناحية الانسانية سنجدها قد تفاوتت صعودا وهبوطا ، وكان افضلها و أقومها فى عهد النبى صلوات الله عليه و تسليمه

فى هذه المرحلة ازدهر الفكر الانسانى بمختلف مجالاته ، و ساهم فى تكوين أرضية معرفية خصبة فى تكوين العديد من العلوم لاحقا ، والعديد و العديد من المزايا الحضارية و منها الفن المعمارى الاسلامى مثلا ، لكن كان للدولة الاسلامية وجها آخر يناقض الأسس التى وضعها الدين الاسلامى الحنيف من مبادئ إنسانية لم يختلف عليها أى عقل رشيد منذ بدء الخليقة ، وكانت من هذه السلبيات المضادة لمفهوم الحضارة الآتى :

  • توريث الحكم الذى أشعل الفتن القبلية ثم الطائفية على مدار عهد الخلافة الاسلامية .
  • العديد و العديد من المجازر التى ارتكبت باسم الدين
  • محاولة الحكام إخضاع العلماء لهم
  • محاولة تدليس الناس وخداعهم وسرقة أرزاقهم باسم الدين ، وهنا كان ابن خلدون من أهم من كتب عن هذه اللحظات حيث أوضح أن الكثير من حكام العرب و العلماء المنافقين المصطفين حولهم كانوا يؤلون النصوص بما يخدم مصالحهم فحسب . ( الفقه السلطانى )
  • لم يقل الرق بل زاد ، ولم يروا فى الأعاجم سوى أداة للخدمة و الجزية ، وكان هذا رأى الطبرى أيضا .
  • اختفاء مبدأ الشورى مع الوقت والانفراد بالحكم

و بالطبع كان لكل هذه العوامل تأثيرات اجتماعية جمة سواء على الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية مما أدى إلى ظهور حركات مقاومة بحسب طبيعتها لكنها و بحسب الفترة الزمنية المعاشة تغلفت بالدين مثل القرامطة .

  • الحضارة الحديثة و ما بعدها

عصر النهضة الأوروبية و الذى بدأ بالقتال و الاستعمار للآخر رغم انه أعلى من قيمة العقل فى مواجهة الكنيسة الطاغية حينذاك

ثم عصر الثورة الصناعية و تكون العلوم و الذى كان من مثالبه الفكرية أنه اضاع كل قيمة للملاحظات الشخصية و التأمل الروحى وأيضا العمالة بالسخرة لمدد طويلة وقاسية و تشغيل الطفال منذ سن السابعة ؛ فنمت مدن عظيمة على أرواح جثث بريئة ... ولا أجد وصفا أروع من رواية تشارلز ديكنز حين قال ( مصنع يعصر الأرواح ) .. رواية أوقات عصيبة .

ثم العصر الحالى عصر الرأسمالية الجشعة ، حيث يصير الكهنة الحاليون هم صندوق النقد الدولى و البنك الدولى والبنك الأوروبى و غيرها من مؤسسات تمارس سرقة ونهب و استعمار الشعوب الأضعف تحت مسمى التجارة الحرة و التى لم تكن أبدا حرة كما يدعون بل يفتحون اسواقنا ليسرقوها و فى المقابل نحن اضعف بكثير من الولوج إلى اسواقهم وبلا اى فرصة مستقبلية أمام وحوشهم الصناعية الضخمة ، وكذلك القوانين التى حاولوا منذ قرن أن يلوا عنقها لتخدم مصالحهم فوقف لهم أفذاذ من القانونيين الغربيين الذين فهموا اللعبة باكرا وفضحوها ؛ فما كان من الدول العظمى و شركاتها عابرة الحدود إلا ان لجأت لحيلة فى ظاهرها الرحمة وفى باطنها العذاب حيث اللجوء إلى التحكيم الدولى وهنا تكتشف أن القواعد الموضوعية المنطبقة على النزاعات المتداولة تختلف جذريا عن القواعد المنظمة لأى قانون محلى فى العالم فمثلا لا توجد قاعدة السبب الاجنبى عن العقد ولا قاعدة الظروف الطارئة ؛ ومن تجليات غياب هذه القواعد الهامة انه وعند حدوث ثورات الربيع العربى ، كانت قضية تحكيم بين مصر و اسرائيل حول طلب اسرائيل التعويض عما خسرته نتيجة توقف امدادها بالغاز رغم أن الشعب قد قال كلمته بأن هذا الغاز قد صدر لها بأقل من السعر العالمى و أنه سرقة حقيقية لمقدرات هذا الشعب لكننا خسرنا لأن الثورة كظرف طارئ ليس لها محل من الإعراب فى القواعد الموضوعية للتحكيم وكانت النتائج بعد ذلك اكثر سرقة وخرابا على البلاد

ثم محاولات الهيمنة الثقافية التى بدات من خلال بعض المستشرقين الذين تصوورونا عوالم أكثر غرابة من عوالم ألف ليلة وليلة رغم عظمة ألف ليلة وليلة لمن يفقهون ، ثم السينما التى من خلالها تمت محاولات عدة لتزييف التاريخ و طمس الحقائق بل وبالأحرى طمس الجرائم المرتكبة فى حق الشعوب الأضعف ، و القائمة هنا تطول جدا جدا .... وهذا ما عبر عنه ترامب فى أصدق تصريح سياسى فى العالم أن البيزنس لا يعرف الرحمة أو الظلم بل يعرف الربح ( المعنى وليس الترجمة الحرفية ) ... لذلك فإن مجهود كل أمة خلقت على هذه الأرض أن تعيد صياغة حضارتها و أن تجتهد فى ذلك أشد الاجتهاد و هو امر واجب علينا جميعا وهو أمر ينعكس بالضرورة على تعريف معنى الحضارة ؛ ولذلك ستجد دوما لها معان مختلفة ....... اعتذر عن الاطالة ولكن يهمنى رأيكم هل توافقوننى أم لا ؟