منذ سنوات طويلة، ارتبطت في أذهان الناس فكرة "الكليّات القمّة" بمسارين لا ثالث لهما: الطب والهندسة. كأنّ الإنسان لا يُقاس نجاحه إلا إذا ارتدى المعطف الأبيض أو حمل لقب "المهندس". وأصبح هذا الاعتقاد يُلاحق الأجيال جيلاً بعد جيل، حتى صار كثير من الطلّاب يعيشون تحت ضغطٍ نفسي كبير، لا لشيء إلا لأنّ المجتمع رسم لهم مسارًا واحدًا يراه طريق المجد، وما عداه لا يُحتسب نجاحًا.
أذكر أنّني منذ أن بدأت مرحلة الثانوية كنتُ أحمل شغفًا مختلفًا؛ فقد كنتُ أحب الأدب والكتابة، وأجد نفسي أكثر في العوالم التي تُنبتها الكلمات على الورق. لكنّ كل ما كنت أسمعه من حولي هو: "اجتهدي لتدخلي أما الطب أو الهندسة، فهما مستقبلُك المضمون. و إن كان الطب هو الأفضل لكِ لأنك فتاه أدخلي علمي علوم فهذا هو المستقبل المناسب لكِ و بعدها إلي كلية الطب إن شاء الله ..وكأنّ بقية العلوم لا مستقبل لها. كنتُ أقاوم داخليًا ذلك الشعور بالذنب، وكأنّني إذا اخترتُ غير ما يُسمّى بالكليات المرموقة، سأكون قد خذلت أهلي والمجتمع. هذه المفارقة جعلتني أعيش صراعًا بين ما أُحب وما يُراد لي.
مع مرور الوقت، بدأتُ أرى الصورة أوضح. النجاح لا يُقاس بتخصص بعينه، بل بقدرة الإنسان على أن يجد شغفه ويطوّره ويترك أثرًا فيما يحب. كم من طبيب أو مهندس عاش عمره حبيس لقب لم يُردْه في الأساس، وكم من شخص درس مجالاً مختلفًا ثم أبدع فيه حتى صار علمًا بين الناس.
إذن، لماذا نُصرّ على أن نحصر أبناءنا في قوالب جاهزة؟ لماذا لا نتيح لهم أن يرسموا مستقبلهم بأيديهم، حتى لو بدا غريبًا عن "التصنيف المجتمعي" المعتاد؟
وسؤالي إليك عزيزي القارئ:
هل تعتقد أنّنا نستطيع في يومٍ من الأيام أن نغيّر هذه النظرة المجتمعية، فنكسر قيد "الكليات القمّة"، ونترك لكل إنسان حرّية أن يختار قمّته بنفسه؟
التعليقات