قد أكون أعرف مالذي تريد قوله،"لا اريد الرحيل الآن، ما زال لدي الكثير لأقوم به". سمعته كثيرا
بالمناسبة أنا الموت، لا حاجة لأن أقدّم نفسي، فسنلتقي على أي حال. البعض يشتاق لي في صمت، وآخرون يهربون من ظلي ولو كانوا في عزّ الظهر.
لكن اليوم، أتيت لا لأقبض روحًا، بل لأستمع إلى رجاءٍ غير معتاد. جلس أمامي، وجهه شاحب لكنّ عينيه مليئتان بالحياة، وقال لي: "لا أريد الرحيل الآن، ما زلت أريد أن أعيش".
هممم... مثير. لوهلةٍ ظننت أن البشر نسوا فنّ التوسل، فقد أصبحوا أكثر انشغالًا بالتصوير مع الكوارث بدل الهروب منها، وأكثر حماسًا لكتابة الوصايا على مواقع التواصل الإجتماعية من كتابتها على الورق. لكنه، هذا الكائن المكسور قليلًا من الداخل، ما زال يحاول التمسك بالحياة بأظافره... رغم أنه لم يقصّها منذ شهرين.
قال لي إن لديه مشاريع مؤجلة: يريد كراء منزل بدل بنائه، أو ربما العكس... لم يكن متأكدًا. حدثني عن أطفال لم يُنجبهم بعد، عن ذكريات لم يعشها، وعن لحظات انتظرها ولم تأتِ. ظنّ أن الحياة طاولةُ انتظار كبيرة، والقدر نادلٌ سكران يتجاهله عمدًا. سألته: "وماذا كنت تفعل طوال هذا الوقت؟"، فابتلع ريقه وقال: "أفكر".
آه التفكير، هذه الحيلة العبقرية التي يمارسها أغلبكم لتأجيل كل شيء، حتى الموت.
تفكرون في العمل بدل أن تعملوا، تفكرون في الحب بدل أن تحبوا، تفكرون في ترك كل شيء... ثم لا تتركون شيئًا سوى الصحون غير المغسولة، أنا أتحدث عنك يا من تطهوا البيض.
وعندما أطرق بابكم، تتفاجؤون كما لو أنني قطعت عليكم فيلمًا مهمًا. عذرًا.
كل مرحلة في حياتكم تقولون إنها البداية الحقيقية: الطفولة هي التجهيز، المراهقة تجربة، الشباب هو الانطلاقة، الكهولة هي الحكمة، ثم تكتشفون أنكم في كل المراحل كنتم تبحثون فقط عن شبكة وَايْفاي مستقرة. وللأسف، لا أحد من المخلوقات يعلم متى أقرر الحضور. أحيانًا أظهر في منتصف ضحكة، أحيانًا في نهاية تنهيدة. أطرق الباب أحيانًا، وأحيانًا أدخل كأنني من أهل البيت... لأنني في الحقيقة كذلك.
قال لي وهو يحدّق في الفراغ: "لم أقرر بعد كيف أعيش. عبارة رُدِّدت آلاف المرات. عليه أن يدرك أو كان عليه إدراك أنّ عدم اتخاذ قرار، هو في حد ذاته قرار. قرار بأن تترك الريح تدفعك، والناس يسحبونك، والمواعيد تداهمك، حتى أداهمك أنا... بهدوء، بلا سابق إنذار، بلا موعد في التقويم.
لكنه، في تلك اللحظة، لم يكن المقصود. مررت فقط لأتفقّد القائمة. أما رفيقه في قاعة العلاج، ذاك الذي لم ينبس بكلمة منذ أيام، فقد كان صامتًا بما يكفي لأسمعه. فقد ذهب معي ضيفا، ليوم لعدة أيام ...من يدري . أما هو، فتركته كان يتنفس قليلاً . ربما بعظ هذا، لعله يتوقف عن التفكير... ويبدأ أخيرًا في العيش.
________________
هل نبدأ حقًا في التفكير في معنى الحياة فقط حين نشعر بظل الموت يمرّ بنا؟

التعليقات