لم أعش الكثير، ولا أعني بذلك عدد السنوات، بل عدد التجارب والمواقف التي تصنع الإنسان، تلك اللحظات التي تنقش أثرها على القلب والعقل فتغيرهما. قد تكون هناك فتاةٌ تبلغ نصف عمري لكنها عاشت أكثر، امتلأت أيامها بأحداث لم تمر بي، وخاضت معارك لم أواجهها، وحملت بين يديها ما لم يُكتب لي أن أحمله. ومع ذلك، أشعر أن داخلي عالَمًا مزدحمًا، وكأنني أعيش حيوات لم أخُضها، وأحمل ذكرياتٍ ليست لي، ومشاعر لا أعرف لمن تنتمي.
أحيانًا أسأل نفسي: من أين جاء كل هذا؟ لماذا يبدو رأسي وكأنه صندوق ممتلئ بمشاعر وتجارب أكبر من سنواتي؟ لماذا أحمل هذه الكمية من الأحاسيس دون أن أجد لها تفسيرًا واضحًا؟ ربما هو ثقل الأشياء التي لم أعشها ولكنني استوعبتها. ربما هو نتاج كل من قرأت لهم والتقيت بهم، أولئك الذين تركوا جزءًا منهم في داخلي دون أن يدروا. امتصصت أفكارهم، حملت مشاعرهم، وشعرت بهم حتى أصبحتُ جزءًا منهم، أو أصبحوا هم جزءًا مني.
الكتب، العيون التي التقيتها، القصص التي سمعتها، الوجوه التي عبرت حياتي سريعًا، كلها وضعت بصمتها في داخلي، حمّلتني مشاعرها، وحشرت أفكارها في رأسي حتى كدت أنفجر. أحيانًا أشعر وكأنني خزان ممتلئ بحكايات الآخرين، لا بحكايتي أنا. أعيش عبرهم، أشعر بهم، ألتقط أحزانهم وأفراحهم، وأحملها كما لو كانت تخصني.
لكن ماذا أفعل بكل هذا؟ كيف أُخرج ما لم يكن لي أصلًا؟ كيف أفرغ رأسي من أفكار لم أزرعها، وأحرر قلبي من مشاعر لم أخترها؟ لا أريد أن أُورّط أحدًا بحملها عني، لا أريد أن أسكبها على قلبٍ آخر فيشعر بثقلها كما أشعر. لهذا، أبدأ بكتابتها، أحاول أن أفرغ هذا الفائض على الورق، أن أجعل الكلمات تأخذ عني هذا الحمل. أكتب لأتخفف، لأتحرر، لأتطهر من كل ما علق بي دون أن يكون لي.
لكن، ويا للأسف، لا تسير الأمور بهذه البساطة. كل ما أكتبه يعود إليّ مجددًا. كأنني أدور في دائرة مغلقة، كلما رميت مشاعري على الورق، أعادها إليّ بطريقة أخرى، أكثر عمقًا، أكثر إلحاحًا. أكتب لأهرب، فأجد نفسي أسيرة لكلماتي، كما لو أنني أحييها بدلًا من أن أدفنها.
ربما لهذا السبب أكتب، ليس لأنني عشت كثيرًا، بل لأنني أشعر بالكثير، وأحتاج إلى أن أفهم هذا الكم الهائل من المشاعر التي تسكنني دون أن أعرف سببها. أكتب لأن الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي تجعلني أرى نفسي بوضوح، حتى لو لم تساعدني على التخلص مما أشعر به. ربما لا يمكنني أن أتحرر من كل ما أحمله، لكن يمكنني أن أراه، أن أفهمه، أن أضعه أمامي وأحاول أن أعيش معه بسلام، ولو قليلاً.
وربما، في نهاية الأمر، الحياة ليست فقط ما نعيشه، بل أيضًا ما نحمله بداخلنا، حتى لو لم يكن لنا.
التعليقات