لا شك أن الكثير منكم يعرفون هذه الرواية فهي من الكلاسيكيات العالمية للروسي ليو تولستوي أو كما تسمى بإلياذة العصور الحديثة. لكنني لست هنا للتحدث عن الرواية و حبكتها المتقنة رغم طولها. بل أنا هنا لمناقشة فكرة أثارتني حقا، كان حوارا عابرا بين شخصيتين في الرواية، بيير الشاب الذي كان منحرفا لكنه ورث ثروة هائلة و بعدها انضم إلى منظمة مسيحية و تشبع بأفكار الخير والحياة الآخرة، التضحية و العيش في سبيل الآخرين .... إلخ، فطالب استغلال ثروته في تحرير الفلاحين و العبيد الذين لديهم، بناء المستشفيات و المدارس لهم، و إعفاء نسائهم و أطفالهم من أعمال السخرة. و كان سعيدا جدا بتحقيق ذلك، رغم أن أيا منه تحقق إذ تعرض لخداع الوكيل العام على ممتلكاته و الذي أوهمه أنهم يحققون مطالبه، و الخاسر الأكبر الفلاحين الذين تضاعفت أعمالهم. و الآخر هو الأمير أندريه الملحد و الذي لديه قناعاته الخاصة. هما صديقين قديمين، التقيا بعد طول غياب. أنقل لكم هنا اقتباسا من حوار مشتعل دار بينهم:

«إن كل ما يسيء إلى المجتمع غير عادل.»
– «ومن الذي قال لك ما هو الشيء الذي يسيء إلى المجتمع؟» ً
– «كيف هذا؟ إننا نعرف جميعا ما يسيء إلينا.»
فقال آندريه وفي نفسه رغبة في عرض وجهة نظره الجديدة على بيير: «نعم، إننا نعرفه، لكن ذلك الشر الذي أعتبره مسيئًا إليَّ شخصيٍّا لا أستطيع أن أعمله للمجتمع.» ثم ازداد تحمسه وأضاف بالفرنسية: «إنني لا أعرف في الحياة إلا سيئتين حقيقيتين: المرض، وتبكيت الضمير، ولا شيء أحسن من غيابهما عن النفس والجسد. إن حكمتي الحالية تنحصر في أن أعيش لنفسي، وأن أتجنب هذين الشرين.»
ً فاستأنف بيير مناقشا: «وحب المجتمع، وروح التضحية؟ إنني لا أستطيع أن أشاطرك الرأي؛ أن يعيش المرء لمجرد ابتعاده عن الإساءة تجنُّبا لتبكيت الضمير أمر تافه قليل. لقد عشت كذلك؛ عشت من أجل نفسي فحطمت حياتي. والآن وأنا أعيش للآخرين — وبادر إلى تصحيح جملته بتواضع فقال — أعني أنني أحاول على الأقل أن أعيش للآخرين، فإنني على العكس بدأت أشعر بلذة الحياة وأفهمها. كلا إنني لست من رأيك، ثم إنك لا تؤمن بما تقوله بالفعل.»
أخذ آندريه يتأمله وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة، قال: «سوف ترى أختي ماري، وستتفق معها في الرأي.» وأردف بعد فترة صمت: «إن من الممكن أن تكون على حق فيما يتعلق بك، لكن كل إنسان يعيش كما يرى وعلى هواه. إنك تزعم بعيشك من أجل نفسك، كما عملت بادئ الأمر. كدت أن تفسد وجودك وتحطم حياتك، وإنك لم تتعرف إلى السعادة إلا عندما رحت تعيش للآخرين. لقد قمت بالتجربة العكسية، لقد عشت من أجل المجد، والمجد هو حب المجتمع كذلك، والرغبة في تحقيق شيء من أجله، الرغبة في أن امتدح من قبله؛ إذن عشت من أجل الآخرين، فحطمت حياتي كلها نهائيٍّا. إنني منذ أن بدأت أعيش من أجل نفسي شعرت على العكس بأكثر قسط من الراحة والهدوء.»
فناقشه بيير بحماس: «ولكن كيف يمكن أن يعيش المرء من أجل نفسه فقط؟ وابنك، وأختك، ووالداك؟»
– «إنهم يدخلون في ال «أنا». إنهم ليسوا الآخرين. إن الآخرين (المجتمع) — كما تسميهم أنت وماري — هم السبب الجوهري للخطأ والشر. إن المجتمع هو فلاحو كييف ً الذين تريد أن تعمل صالحا من أجلهم.»
خُيِّل لبيير أن نظرته الهازئة تتحداه، فأجابه وقد ازداد حماسه توقدا: «إنك تمزح ولا ريب، كيف يمكن أن تكون رغبتي في عمل الخير خطأ وشرا؟ قد أكون أخطأت في الترتيبات والتنفيذ، لكن نيتي طيبة، وقد قمت ببعض الخير رغم كل شيء. شرفي أن يخفَّف عن فلاحينا التعساء الذين هم من بني الإنسان مثلنا، والذين يكبرون ويموتون دون أن يعرفوا عن الله والحق إلا تطبيقات غير مجدية، وصلوات ربانية سخيفة! أقول: أي شر في أن يطِلعوا على ما يخفف عن نفوسهم فيعرفوا شيئًا عن الحياة الأخرى التي تنتظرهم جزاءً لهم على أعمالهم، وتخفيفا عما في نفوسهم؟ أي شر وأي خطأ في أن نجنِّب الرجال الموت دون غوث مادي! وفي أن نؤمن لهم حاجتهم من الأطباء والمستشفيات والملاجئ مع ما في ذلك من يسر؟ أليس منح بعض الراحة لأولئك التعساء البائسين، وللأمهات الشابات اللواتي يقتلن أنفسهن في العمل المرهق عملا طيبًا لا يبارى؟»
كان بيير يتحدث بسرعة متمتما، فلما بلغ هذا الحد أعقب بصوت هادئ وبرزانة قائلا: «هذا ما عملته. صحيح أنه كان عملا ناقصا، وأنه نفِّذ بشكل غير مرض كليٍّا، لكنني عملته على كل حال. إنني لن أصدق أبدا مهما قلت وأكّدت أنني أسأت صنعا فحسب، بل لن أصدق كذلك أنك لم تفكر في هذا بالمثْل. إن المتعة التي يشعر بها الإنسان بعد عمل الخير هي سعادة الحياة الحقيقية. إنني أعرف ذلك الآن وفي نفسي القناعة الكاملة. وهذا هو الشيء الأساسي.»
استأنف الأمير آندريه قائلا: «على هذا الأساس فإن المسألة تبدو بشكل مختلف تماما. إنني أشيِّد دار ً أو أغرس شجرا، وأنت تبني مشافي، لكل منا تسليتُه. أما ما هو خير وما هو عادل، فدع للذي يعرف كل شيء فرصة تقرير ذلك. إن هذه المسألة ليست شأننا. لكن، أتريد أن نتناقش؟ هيا، ليكن.» – «حسنًا، لنستمر. إنك تقول: مدارس، مواعظ، وماذا بعد؟ الخلاصة أنك تريد أن تسحب هذا المخلوق — وأشار إلى فلاح كان يمر في تلك اللحظة محييًا — من حالته الحيوانية الحالية لتعطيه ما ينقصه من النواحي الفكرية والخلقية. أما أنا فأعتقد، على العكس، أن سعادته الوحيدة الممكنة كامنة — على الدقة — في هذه السعادة الحيوانية التي تود سلبها منه. إنني أغبطه في الوقت الذي تريد أنت أن تجعله «أنا» دون أن تعطيه على أية حال واحدا أو أكثر من مصادري. ثم تقول بعدئذ: لنخفف عنه عمله، لكنني أقدّر عكس ذلك أيضا؛ أن العمل العقلي يعتبر ضرورة بالنسبة لك ولي. إنك لا تستطيع أبدا أن تتخلى عن التفكير، وأنا لا أنام قبل الساعة الثانية أو بعدها؛ لأن حشدا من الأشياء يتجمع في رأسي، فأتقلب وأتقلب ولا أجد سبيلا إلى النوم. كل يوم لأنني لا أستطيع أن أعمل شيئًا غير التفكير، وعلى ذلك، فإنه لن يستطيع التخلي بدوره عن الحراثة والحصاد، وإلا ذهب إلى الحانات وسقط فريسة للأمراض. إنني لا أستطيع احتمال عمله الجسدي المخيف؛ لأنه سيقتلني في بحر أسبوع إذا مارسته، كذلك فإن بطالتي ستجعله عظيم السمنة وستقتله. ثالثًا ... ماذا كنت تقول؟ آه، لقد تذكرت.» ٍ وثنى إصبعه الثالث وأردف: «المستشفيات والمداواة، فهو إذا أصيب بضربة دم مات، عالجه ليشفى، سيعيش عشر سنين بعد شفائه، لكنه سيكون مقعدا عاجزا، عالة على الآخرين، ومن الخير له أن يموت مرة واحدة. إن غيره يولدون بكثرة، وسيحلون محله باستمرار، وسيكون عددهم أبدا كافيًا، فإذا كنت تأسف لخسارة عامل — وإنني أعتبر الأمر كذلك — فليكن! لكن كلا، إنك تريد معالجته حبٍّا به ليس إلا. إنه ليس في حاجة إلى مساعدتك. ثم من الذي شفاه الطب حتى الآن؟ إن الطب لا يعرف إلا القتل.»
وأشاح بوجهه غاضبًا. كان آندريه يتحدث بطلاقة ووضوح الرجل الذي ناقش هذه الأفكار في نفسه طويلا، و الذي وجد أخيرا مجالا للتعبير عما يجيش في صدره، فكلما كانت استنتاجاته كئيبة مظلمة ازداد بريق عينيه وميضا.
قال بيير: «آه! إن هذا مريع، إن هذا مريع! كيف يمكن أن يعيش المرء بمثل هذه الآراء؟! لقد عرفت — والحق يقال — دقائق من هذا الطراز في موسكو وأثناء سفري، لكنني لم أشعر بسقوطي في مثل هذا الإسفاف. لا أشعر بالحياة، بل إن كل شيء يبدو لعيني بشعا كريها، اعتبارا من نفسي؛ وعندئذ أعزف عن الطعام والاغتسال. وأنت؛ لم إهمال النفس؟ إن ذلك يعتبر قذارة! يجب على العكس أن يجهد المرء ليجعل حياته على أقصى ما يستطيع من درجات الرفاهية. إذا كنت أعيش فليس ذلك خطئي؛ فلنعش إذن على خير ما نستطيع بانتظار لحظة الموت.»
– «ولكن كيف يمكنك مع ذلك أن تتمتع بالحياة وتشعر بلذة العيش؟ عندما يكون المرء في مثل هذه الحالة فإن من الأفضل أن يدفن نفسه في أحد الأركان، وأن يستغرق في تأملاته ويضرب أخماسه بأسداسه. ألا ترى أن الحياة لا تترك لنا مجالا للراحة، ولولا ذلك لأسعدني أن أعيش دون أن أعمل شيئًا؟ لكن فئة النبلاء في المقاطعة أرادت بادئ ً الأمر أن تنتخبني قيما على مصالحها، ولقد وجدت صعوبات كبيرة في إقناع هؤلاء السادة بأنني لم أكن رجلهم المنشود؛ لأن المنصب يتطلب استعدادا نفسيّا مرحا ودناءة مستمرة،. مما لا يتوفر فيّ، ثم اضطررت إلى تشييد هذا البيت لأجد لنفسي ركنًا خاصا أشعر فيه بالراحة

حاولت أن أقتبس ما سيوضح بالضبط أفكار الطرفين.

شخصيا، يبدو لي بيير ذاك الشاب المندفع و أراه بوقا للمنظمة التي التحق بها يكرر ما قالوه له، أما أندريه فشخص حكيم خاض أهوال الحرب و تأثر بوفاة زوجته و هي تلد، ليكوّن قناعاته الخاصة التي وصل إليها بتمحيص.

فكرة أندريه باختصار أن هنالك من لا تليق بهم إلا الأعمال البدنية و تعليمهم هو ظلم لهم، أنا لا أتفق، فكونهم بشرا مثلنا يملكون عقلا، إنما خلق لهم ليفكروا به أيضا، مثلنا. بيد أنني إذا فكرت من زاوية مختلفة أجد من الغريب أن يعيش الإنسان كل حياته دون أن يثيره الفضول للمعرفة. أضع نفسي مكانه، ماذا لو ولدت في ذاك الوقت لعائلة فلاحين، ألم أكن لأتسائل طوال حياتي عن عديدها أسرار، ما هي النجوم التي أراها كل يوم؟ و ماذا يوجد بعد تحت هذه التربة التي أحفرها؟ لماذا فرنسا تتحارب مع بلدي روسيا؟ ... إلخ. لا يمكنني حقا الحكم و أنا لا أعيش حياتهم و تعلمت منذ الصغر تلك الأشياء. لكن من الغريب أن لا أتساءل عن ذلك أينما كنت. بل إننا نجد في عصرنا فقط، أشخاصا تتوفر لهم كل وسائل المعرفة لكنهم غير مهتمين، غير متعطشين. مثال بسيط، اجتمعت مع أربعة من زميلاتي نناقش ما إن كان الاستماع للموسيقى حرام، صديقتي سمعت لإحدى الشيوخ و تأثرت به فجاءت مقتنعة تماما أن ذلك حرام و تعطي حججا واهية، فناقشتها بحججي أنا، و كانت الزميلات يتناقشن معنا في ذات الموضوع، كل تدلي برأيها. لكن مرت، زميلتين، و سألونا عما نتناقش، فلما أخبرناهما، استهزأتا منا و قالتا: ما نفع النقاش بهذا؟ و مواضيع كثيرة أخرى، ليس فقط دينية، لا تهتمان بالنقاش حولها. فما الفرق، كلنا لنا تقريبا ذات الظروف.

ما أقصده، هنالك من هم غير متعطشين للمعرفة حقا أو يتوهم لي، لا أدري.

الفكرة الثانية لأندريه كانت عن بناء المستشفيات، لماذا أنقذ أحدهم من الموت ليعيش عاجزا عشرا بعدها؟ الفكرة مهما بدت منطقية، فهي غير أخلاقية على الإطلاق. الأمر شبيه بالقتل الرحيم لكن ليس تماما. لا أملك بالضبط رأيا كاملا حول الأمر، لذا سأسعد بمعرفة آرائكم و مناقشتها.

أوه، أنتبه للتو كم هي طويلة هذه المساهمة‼ إن كنت وصلت إلى هنا، أشكرك على صبرك.

ختاما، ما أرجوه منكم، أن تخبرونا آرائكم حول الموضوع بعيدا تماما عن الدين:

أيهما توافق: أندريه أم بيير؟ أم لك رأي ثالث؟ هل حقا كل الناس يستحقون أن يتعلموا؟ إن كان الأمر كذلك، كيف نحدد من يستحقون؟ و ما رأيك في أن الطب يزيد من أمد المعاناة فقط -هذا و بالطبع هنالك احتمالية الشفاء الكامل-؟