لغتي الأم...

كيف للرضيع إن صار رجلا أن ينسى حليب مرضعته؟ و كيف للطفل إن غدا شابا أن ينسى مربيته؟ تهب نسمات الأيام ورياح السنين فتبعثر أوراق الحياة و تكسر أغصان الذكريات، لكنها لا تقدر على الجدوع القوية للشخصية، ذلك لأن جذورها متشعبة في أعماق التربة فلا سبيل إلى انتزاعها مهما حاولت عوامل التعرية.

ولدت و الحمد لله مسلما في بلد عربي، فكانت كلمات الأذان و الإقامة هي أول من ذاعبت أذني، و رضعت العربية غضة طرية في مكونات حليب والدتي، وكانت حروفها الهجاء أول ما خطته أنامل طفولتي، و نشأت على عشق إعرابها و فهم نحوها في مدرستي و على يدي أبتي... فكيف لمن ذاق الشهد أن ينسى طعمه؟ و كلام ربنا قرآنا عربيا أنزله !

إلا أن طلب العلم,في زماننا هذا, يقتضي تعلم اللغات الموصلة إليه، فكان لزاما علينا أن نتقن اللغات الأجنبية لننهل من منابع المعرفة، و لنتسلح بالشهادات الأكاديمية و بالتالي لنعزز فرص الحصول على الوظيفة المناسبة.

فأضحت اللغة الفرنسية مرافقة لي في مشواري الدراسي حتى ألفت فيها البحوث و الرسالات، و صارت ممرا لا مفر منه في مشواري المهني فاجتزت بها المقابلات و الامتحانات...

وعملا بمقولة " من تعلم لغة قوم أمن مكرهم"، انضافت إليها لغات أجنبية أخرى أتقنتها حبا في تعلمها، و رغبة في التواصل مع متكلميها، و عشقا في التحدث بها.

بيد أن كلها و رغم ضروريتها لم تنسني قط أول من علمتني القفز بين أسطر الكتابة و أول من روضتني على نطق الحروف. حرمت علي المراضع الأخرى و زينت لي لغة الضاد فلم أعشق سواها. حتى لأني أمل بسرعة من قراءة صفحة كتبت بغيرها، و لا تشبع مقلتي من مطالعة مئات الصفحات المكتوبة بها.

هي البحر في أحشائه الدر كامن...فهنيئا لكل غواص توغل في أعماقها ثم تمكن من كنوزها. حتى و إن كنت عاجزا عن السباحة في أعماقها، فحسبي أن تبتل قدمي الحافتين عند شاطئها لكي تنتعش كل أوصالي. و على قول الإمام الشافعي رحمه الله "... من تعلم اللغة رق طبعه"، فأنعم بهامن غاية و أكرم بهامن وسيلة !

الدكتور الزروالي محمد جمال الدين