عرضت الأفلام الكثير والكثير من هذه المشاهد والحكايا التي تصوّر لنا تضحية يُقابلها كسب ما، لذلك أسأل سؤالاً قد يكون مستحيل الحدوث لكنّه مهم من الناحية السيكولوجية، مُهم في أن نجيب عليه: إنقاذ عشرة أطفال أو طفل واحد "طفلك"؟
إنقاذ عشرة أطفال أو طفل واحد "طفلك"، أيهما ستختار؟
تلك معضلة إنسانية صعبة للأسف، فبالرغم من أن اختيار المنطق والعقل يحتم اختيار العشر أطفال كونه إنقاذ عدد اكبر من الانفس، إلا أن الشرط الذي وضعته بجعل الطفل الواحد هو ابني يجعل القلب يصر على اختيار طفلي بغض النظر عن العدد في الكفة الأخرى للأسف.
طرحك هذا ذكرني بمعضلة مثلها استأذنك أن اطرحها وأود سماع رأسك فيها.
لو أنك تعمل على تحويلات قطار واقترب موعد وصول القطار لكن على خط سيره يلعب عشرة أطفال وعلى الخط المعاكس يلعب طفل واحد فقط لكنه يعرف ان هذا ليس خط سير القطار والوقت لن يسعفك أن تحذر الأطفال فماذا ستفعل؟ هل تترك القطار يسير في مساره الطبيعي ويتحمل الأطفال العشر نتيجة اختيارهم للعب على قضبان القطار وهم يعرفون ان هذا خط سير القطار أم تقوم بتحويل خط السير إلى الاتجاه الآخر وتضحي بطفل واحد فقط رغم أنه اتبع التعليمات ولعب في المكان الذي لن يسير فيه القطار فيقع ضحية التزامه بالتعليمات في مقابل إنقاذ العدد الأكبر من الأرواح؟ ماذا سيكون اختيارك اذا ؟
للأمانة لقد اطّلعت مؤخراً على العديد من السياقات والنظريات الفلسفية التي تُعنى بموضوع العدالة ومسؤليتها والحرية والاختيار، الإيثار والتضحية ومن كل ما مرّت عليه عيناي لا أذكر أنني تذكّرت أو تأثّرت بشيء أكثر مما تأثّرت بالفلسفة النفعية التي أساسها على ما أعتقد أمريكي المنشأ، الذي يصوّر كل قرارتنا الناجحة والمهمّة والصائبة في أن تكون فقط قائمة على المصلحة المجموعية الاكثر عددية، الأكثر فائدة ونفع هو الخيار الصائب دائماً بغضّ النظر عن التضحيات الأخرى أو التي تترتب على هذه الفائدة العظمى، برأيي هكذا فلسفة على مشاكلها الأخلاقية، إلا أنّها تضمن وجود أفضل للإنسان، المُتبقّى منه على الأقل.
لكن هذه الفلسفة النفعية قد تسبب الفوضى الاخلاقية وتدفع إلى خرق القواعد بحجة النفع والمصلحة، كما قد يحدث في المثال الذي ذكرتُه، فلة أننا اخترنا إنقاذ عشرة أفراد بالرغم من عدم اتباعهم التعليمات وضحينا بالطفل الذي التزم مساره لان عددهم اكثر منه فإننا نعطي رسالة غير مباشرة للعقول الباطنة أنه لا بأس من عدم الالتزام بالقواعد طالما أن الجموع تفعل نفس الشيء، وهذا بدوره هو الفوضى في أبهى صورها، إذ حينها ستجد اللاقاعدة هي القاعدة الأساسية واللاقانون هو القانون الحاكم، فما فائدة القواعد والقوانين طالما قانون الكثرة غالب غيره.
المعضلات الأخلاقية
ببساطة أجد أنك سهلت الاختيار واتخاذ القرار، لأنك وضعت رابطة القرابة وهي أن يكون طفلي، فبالتأكيد ودون تردد سأختار طفلي وأعتقد الأغلبية سيفعل ذلك إن لم يكن ككل، وليس السبب هنا العاطفة فقط، بل شعوري بالمسؤولية تجاه طفلي وأنا المسؤولة عن حمايته. لم أتطرق للإنقاذ الكل لأن هذا غير متاح بقرارات المعضلة، رغم أنه قد يكون متاح بحلول ضمن الموقف.
لكن أليس هذا الأمر يُعدّ جريمة حقيقية لا يمكنك ولن يمكنك العيش بمواجهتها طوال حياتك المتبقيّة؟ فما معنى أن تُنقذي طفلاً هو ابنك وتموتي بعد ذلك قهراً أو مرضاً نفسياً وأنا أفرض وأفترض هذه النهاية مسبقاً وذلك لأنني أجزم بأنّ كل إنسان صحيح مجبر على هذا النوع من الاختيارات سوف يتحصّل على ذات النتيجة، انهدام حتمي لوجوده، نفسياً طبعاً.
من الناحية السيكولوجية التي أشرتَ إليها يا ضياء، وبالتعامل مع المعضلة بشكل تخيّلي، بكل تأكيد لا أستطيع أن أتجنّب اختيار طفلي. لأننا في هذه الحالة نتعامل مع ميزانين مختلفين للموقف: الميزان الأوّل -للأطفال العشرة- هو ميزان أخلاقي بحت. أمّا الميزان الثاني -لإنقاذ طفلي أنا- ليس بميزان أخلاقي على الإطلاق، وإنما أجده ميزانًا غريزيًّا، يعتمد على الغريزة الإنسانية بكل ما أوتيت من مفاهيم مغروسة فيها رغمًا عنها. وبذلك، من وجهة النظر السيكولوجية، لن أبدّي الأخلاق على الغريزة.
لن أبدّي الأخلاق على الغريزة.
أحياناً أشعر باننا نواجه مشكلة حقيقية في فهمنا لموضوعة الأخلاق، إذ ما الذي يجعلنا فعلاً مضطرين لأن نقول ونُسلّم بأنّ الأخلاق وموضوعتها يعنيها العدد؟ ما الذي جعلنا عاجزين على أن نتوقّف لحظات لكي نقول باحتمالية أن يكون الخيار الأخلاقي هو الخيار الثاني، أي أن اختار طفلي؟ هل العدد هو ما أثّر علينا فعلاً؟ هل العدد ميزان للأخلاق؟
لو كان كذلك فلماذا لا نواجه مشكلة بإبادة آلاف من الطيور مقابل إنسان واحد؟ هل تسقط نظرية الأعداد هنا وتعمَر هُناك؟ وكيف يكون ذلك بحالتيه منطقياً بالنسبة لنا أصلاً؟
سأختار طفلي, وربما الأغلب إن لم يكن الكل سيختارون نفس الخيار, بل لا أستغرب من البعض في الدول الأجنبية إن خيروا بين حيوانهم الأليف وعشرة أطفال أن يختاروا حيوانهم! فكيف إذا بمن يختار طفله, وأعتقد أننا لو نظرنا إلى العوامل المنطقية بل وربما الدينية سيكون الخيار أن تختار الأطفال العشر على طفلك ولكن أغلبنا سيطغى عليه العامل الغريزي والعاطفي وهذا لا أراه شيئاً سيئاً لأنه هذه طبيعتنا!
هذا لا أراه شيئاً سيئاً لأنه هذه طبيعتنا!
أن تكون مُضطراً أن تفعل أيّ فعل صعب ومؤذي للأخرين وقادراً على تحمّل تبعاته النفسية شيء وأن تعتبر هذا الأمر برمّته عادياً وليس سيئاً ومن طبيعتنا فهو شيء أخر تماماً، كيف تبرر حضرتك لسفك دمّ عشر أطفال دون أن تعتبر ذلك سيئاً؟ على أيّ أرضية تبني حجّتك؟ وخاصّة ونحن في مجتمع يعاقب بالسجن على من يسرق ليُطعم أولاده الجوعى،فكيف بمن يقتل ليُحييهم؟
التعليقات