مع من تتفق ولماذا..؟
قول ديستويفسكي : ( لا يمكنك أن تشفى في نفس البيئة التي جعلتك مريضاً.. غادر).
وقول جلال الدين الرومي : ( هروبك مما يؤلمك سيؤلمك أكثر..لا تهرب..تألم حتى تشفى)
لقد مررت على عدّة أعمال لدوستويفسكي، الجريمة والعقاب، الأخوة كارامازوف والليالي البيضاء، هذا الرجل يفهم البشر جيداً، إن لم أكن أريد أن أشطح بخيالي لكنت قلت بأنّهُ طبيب علم نفس، لكن على ذلك لا أعتقد بأنّهُ قد يفوق حكمة الرومي أيضاً، جلال الدين الرومي يفهم جيداً كيف حال الإنسان بكلّ مراحله، خاصّة وهو صاحب التحوّل الكبير الذي اسماه سما في شخصيّته، ولهذا لا أشعر ومن روح أعمال وشخصيات الأثنين بأنّ كلامهما يتناقد مع بعضه، فكلام دوستويفسكي على الأرجح يحكي عن المكاني في البيئة، عن الجغرافي فيها، وفي هذا معه حق، لا يمكنك أن تشفى بكل تأكيد مثلاً من حزنك على ابنك المتوفّى وأنت بين أغراضه في غرفته، أمّا جلال الدين الرومي يتحدّث عن الجوّاني فينا، الروحي بكل تأكيد، فهذا مجال موضوعه وحياته وما عاش من أجله، الروح والعقل، ومن وحي فهمي لجلال الدين الرومي أشعر بأنّهُ كان يخبرنا بأنّنا يجب أن لا نتجاهل ما يؤلم حقاً لمجرد أنّهُ يؤلم، لا بد من الامور التي يجب أن تجرّبها الروح وتخوضها، ولهذا وكنتيجة للجملتين أتوقّع أن يكون الحل الأخير لنا للفهم، هو أنّهُ يجب علينا أن نغادر البيئات المُسممة عاطفياً، أن نُغادر فيزيائياً، فيزيائياً وفقط ولكن يجب أن لا ننفك عن بحثنا وتفكيرنا في هذا، في كل هذا، حتى نستطيع التغلب عليه فعلاً (التغلب عليه روحياً).
لم أشعر بتناقض أنا أيضاً ضياء، كما أنني بالفعل لاحظت أن ديستويفسكي يتحدث عن البيئة المكانية، تلك التي لا نشعر فيها بالإنتماء، مثل أننا نعيش في مجتمع لا يحترم مواهبنا أو تعليمنا أو شهاداتنا، أما جلال الدين الرومي يتحدث عن الإحساس نفسه، مثل تجربة عاطفية فاشلة مثلاً، فإن هربنا منها فإنها ستزداد في إيلامنا، أما إن واجهناها للنهاية فسنصل بلا شك لمرحلة التقبل.
اسمحلي ان اقدم منظور مختلف للموضوع وأسأل، إلى أي مدى يسعفنا الأدب والاقوال المأثورة في توجيه حياتنا وآلامنا؟
حسب قراءتي الاولى اجد ان المقولتين مأخوذتين من سياقين مختلفين تماما، ومن وجهتي نظر بعديتين كل البعد ، فينما ينطلق فيودور من منطق فلسفته الوجودية ومنطق الواقع والتحليل النفسي، ينطلق الرومي من ارضية صوفية دينية من منطق الحكمة المثالية والطرق النورانية التي لا يستطيع احد الوصول إليها إلا فيما ندر، وهكذا نجد أن كل واحد منهما يحاول أخذنا إلى ملعبه الخاص الذي تكون فيه الكرة كثير من الاحيان بعيده جدا عن متناولنا، فلا نجد مكان للعب بقدر ما نستمتع بالمشاهدة.
فعندما يخبرنا الرومي بأن الألم بشقى بالالم، وان الهروب لا يحل المشكلة، فهو غير متناقض مع ذاته، لانه يعتبر بأن كل فرد فينا لذيه حيوات كثيرة، يمكنه الهروب إليها مع بقاءه في نفس الجسد، فبينما يتألم جسده مثلا، فروحه مازالت قادرة على الارتحال الى مناطق اخرى من النور والصفاء في ملكوت الصالحين، مثلا يمكنه بالشطحات الصوفية ان يدخل في عالم اخر من السعادة، وحتى جسمه الذي يقهره ألما يمكن ان يتخلص من ألمه ،بالصوم الايام الطوال، والذكر، والصلوات، وحرمان الجسد والضغط عليه... وهذا ما لا يمكن ان نحققه نحن العامة لان لذينا اسلوب حياة مختلف، وطريقة تفكير مختلفة.
الامر نفسه يمكن ان نطبقه على اراء فيودور وعلى الجميع، لذا وجب أن نخلق مخرجنا الخاص كما كان لذينا ألم خاص فالاكيد ان الحل سيكون خاص ايضا، بالاستعانة بالعلم والنظريات المثبة يمكن ان نجد طريقنا لذلك.
لا أرى أنه من الضروري أن نتبنى وجهة نظر معينة، لأن الأديب أو المريد أو الصوفي أو العالم بالرغم من أن لديه اتجاهات سواء علمية أو دينية أو فلسفية إلا أنه في النهاية بشر، عاش تجارب معينة واختلط بأناس معينين فتشكلت وجهة نظره والتي هي ليست قانوناً لا بد للعالم أن يمشي عليه .
وبالرغم من خصوصية التجربة لكل واحد منا، وبالتأكيد خصوصية الحكم عليها واتباع طريق خاص للتعامل معها إلا أننا في النهاية ونحن بصدد هذا الأمر نميل لوجهتي النظر سواء وجهة نظر ديستويفسكي أو جلال الدين الرومي.
وبالرغم من أنني لا أجد تناقضاً بينهما إلا أننا أحياناً لا بد أن نختار مسلكاً يميل لإحدى النظرتين.
ليس عليك ان تختار صديقي الرحمن، لان هذا الامر سيوقعك في مفارقة الاختيار، فتضع عقلك امام امكانيتين فقط فيحذف جميع الامكانيات الاخرى المتاحة التي يمكن ان تكون احسن بكثير من التي حددت نفسك بها، المشكلة الكبرى هي ان العقل سيتعود على هذا المنطق الثنائي القاتل، فلا يفكر إلا في الفكرة وضدها فقط، ولا يرى من الالوان الابيض والاسود ويعجز عن ان يرى الاحتمالات اللامتناهية من درجات الرمادي بين الابيض والاسود.
لذى ان كان على الاجابة عن السؤال باختياري بين ديستويفسكي و الرومي فربما أختار يمكن ان اختار رأي بوذا، بأن لا أهرب من الالم وفي نفس الوقت لا أبقى فيه، وذلك عن طريق التعالي عليه والتوحد من الطبيعة والذات والوقت، لكي اكون خارجه رغم اني داخله، فقد اكون مريضة لكن اتعلى عن الالم، لست هاربة منه ولا باقية معه ولكنه لا يتحكم بي.
ذلك يعتمد على مدى وكمية الأذى فى المجتمع المؤذى للشخص فإن كانت كمية الأذى كبيرة ولا تطاق وقد تدمر الشخص وحياته ومستقبله فعليه الخروج فوراً بلا تردد وعدم المواجهة لأنه حينها سيكون كمية الأذى كبيرة والفرد غير قادر على مواجهتها .
هذا ما أراه لكن عبد الرحمن هل ترى فى المواجهة حل إذا لم يكن معك نفس معطيات البيئة والمجتمع الذى تعيش فيه ؟
أن نود الرحيل عن مجتمع معين لا يناسبنا هذا معناه أنه يوجد اختلاف بين طبيعتنا وطبيعة المجتمع، وأرى أن المواجهة في كثير من الأحيان تعني الرضوخ والحراثة في الماء، وقد تعني التعايش إلا أن يؤثر فينا المجتمع خاصة أنه من المستحيل أن نؤثر في المجتمع ونغيره ليناسبنا، بل الحل المنطقي أن نترك المجتمع الذي لا يناسبنا ونذهب لمجتمع آخر أكثر ملائمة وتقديراً.
لا تضاد بين كلامهما لكن البئية تختلف لكليهما،فديستويفسكي يرى أن بيئته التي عاش فيها لايمكن لشخص تربى فيها أن يشفى مما لوث نفسه وعلق به من العادات السيئة...كما يرى الرومي العكس تماما فبئته يمكن أن يشفى فيها الشخص من ألمه بل وابعد من ذالك أنه إذا سافر يزيد ألمه...
فالبيئة هي العامل الأساسي..لكن في بيئتنا العربية وإن كانت تختلف من دولة لأخرى هل يمكن أن نُشفى في بئاتنا التي جعلتنا مرضى،أم لا بد أن نسافر عنها ؟؟؟؟؟؟
غالبًا أفضل مواجهة الأمر ليس الهروب، لأنه عند هروبك من شيء ما سيبقى يلاحقكك دائمًا مهما هربت سيأتي يوم ويرجع وسضطر لخوضه مرة أخرى. لا أعلم اذا كان تناقضًا فأيضًا أتفق مع مقولة ديستويفسكي، لكن يمكت أن يكون هذا بعد مواجهة ما مررت به تكون المغادرة هي أفضل حل.
أيضًا يعتمد على الظرف نفسه، فمن وجهة نظري المقولتين مكملتان لبعضهم.
بالنسبة للبيئة التي نعيش فيها غدير، هل من الممكن أن نتعايش معها إن كانت لا تناسبنا لكي نشفى من تأثيرها السلبي، أم أن التعايش معها يعني الإستسلام والتخلي عن حقيقتنا (التي لا تناسب تلك البيئة في الأصل) ؟
اتفق مع المقولتين ومافي تعارض بينهم.
اكيد تغيير البيئة عامل مهم جدا في الشفاء وضروري إن أمكن وما يعتبر هروب ابدا، الهروب هو أنك تنكر وتتجاهل مشاكلك ومشاعرك وتحاول تعيش وكأنو مافي شي صار و بدي هون اشير لنقطة مهمة ان الادمان بكل انواعه يعتبر هروب من الواقع.
وهذا الي أفهمه من مقولة الرومي.
أتفق مع ذلك، ولكن من وجهة نظرك ما هو السلوك الأمثل الذي يجب أن نتبعه إذا أدركنا أننا في بلد غير مناسبة لنا وتعرقل مسيرتنا نحو حياة أفضل؟
صراحة البيئة الي احنا فيها مو من اختيارنا وكثير اوقات يكون صعب نغيرها ونحتاج جهد كبير. واشوف كثير شباب وشابات شاغلهم هالموضوع وكأنو معد يقدرو يسوو اي شي ولا يتقدمو في الحياة غير لما يطلعوا من بلدهم. وهو فعلا اوضاع أغلب البلدان العربية صعب وما يساعد كتير.
لكن برأيي انو طول ما احنا موجودين في هذا المكان يعني انو هو المناسب لوضعنا وقدراتنا حاليا. نعمل الي علينا نجتهد ونقدم افضل ما لدينا وبعدها اكيد رح تجي الفرصة والوقت المناسب لنطلع لبيئة افضل وفرص أكثر رح تدعم اهدافنا ومواهبنا ورح نتقدم اكتر. فكل هذا رح يجي بالوقت المناسب. طبعا واكيد احنا نحاول نغير البيئة اذا فعلا كانت معيقة. ومو شرط البلد ممكن لو نغير المدينه يختلف الحال.
صحيح أن البيئة التي ولدنا وعشنا بها ليست من اختيارنا ولكن مسئوليتنا هي التعامل مع هذا الوضع بما يتوافق معنا من إمكانيات، هناك من يستطيع العيش في ظل هذا الوضع المتمعن في السوء وهناك من يرى أنه من الذكاء أن نتعب في المكان الصحيح، حيث نتاج تعبنا لن يُسرق ولن يذهب لغيرنا وسننال التقدير بقدر ما بذلنا من تعب. وأنا أميل لهذه الفرقة، خاصة أن الوضع لا يتحسن بل يزداد سوءاً بمرور الوقت، وهذا يزيد من ضرورة الرحيل بمرور الوقت.
التعليقات