كثيرا ما تغنى الحكماء بالعزلة لأسباب قد تبدو وجيهة وقد لا تبدو كذلك. بعضهم يفضل الابتعاد عن الناس فرارا من زيف الوجوه وكثرة الأقنعة، والبعض الآخر يختارها حبًّا في الكرامة وعزة النفس. يقول أبو الحسن الجرجاني عن هذا الموقف في صورة حوار بينه وبين مُعترضيه على أسلوبه في ترك الناس والابتعاد عنهم:

يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما ** رأوا رجلاً عن موقفِ الذلِّ أحجما

أرى الناسَ مَن داناهُمُ هان عندهم** ومن أكرَمتْهُ عزةُ النفسِ أُكْرِما

والمعنى أن الناس ينكرون عليه إمساكه وتقصيره في مخالطتهم، غير أن حقيقة الأمر أنهم لم يعرفوا أنه رجل يبتعد بنفسه عن مواقف الذل التي يتسبب الناس له فيها. وقد علل ذلك بأن مَن اقترب من الناس هان عندهم، ولم يعطوه حقه الذي ينبغي له. ومن رغب عما في أيدي الناس وأكرم نفسه عن مخالطتهم وتعفَّفَ عما في أيديهم أكرموه.

وفي موقف آخر يعكس فلسلفة مخالفة للشاعر أبي الحسن الجرجاني، تلك التي اتخذها نظيره أبو العلاء المعري في مخالطة الناس مع التجاهل التام لهم:

ولما رأيت الجهلَ في الناس فاشيا *** تجاهلتُ حتى ظُنَّ أنِّيَ جاهلُ

- وكأن التجاهل بهذا المعنى فضل لصاحبه، أم أن الواجب إذا رأينا الجهل شائعا في المجتمع أن نسعى لتعليم الناس وإفهامهم بالتي هي أحسن؟ وأي المواقف ميزة لصاحبه وعزة وكرامة؟ وأيها يمنح المرء توازنه النفسي وحمايته من عيوب القرب؟