لقد كان أول عهدي بأشعار ابن زيدون قبل عامين تقريباً في الثانوية، وعند دراستنا لأحد قصائده الغزلية، حينها لا أخفيكم أنني وقعت حباً في بلاغة شعره وروعة كلمه، فهو محترف في التوفيق بين دقة المعنى و عمقه، وبساطة اللفظ ووضوحه .

أما عن الأبيات التي سأتناولها اليوم في موضوعي هذا، فهي أبياته التي كانت نتاج تجربة قاسية في محبسه جوراً، وما أصدق من قول سجين يتوق إلى الحرية، فلا يضاهيه أحد في فهمها، ولا يساويه أحد في تقديرها .

ما عَلى ظَنِّيَ باسُ   يَجرَحُ الدَهرُ وَياسو
رُبَّما أَشرَفَ بِالمَر     ءِ عَلى الآمالِ ياسُ
وَلَقَد يُنجيكَ إِغفا    لٌ وَيُرديكَ احتِراسُ
وَالمَحاذيرُ سِهامٌ      وَالمَقاديرُ قِياسُ
وَلَكَم أَجدى قُعودٌ    وَلَكم أَكدى التِماسُ
وَكَذا الدَهرُ إِذا ما     عَزَّ ناسٌ ذَلَّ ناسُ
وَبَنو الأَيّامِ أَخيا      فٌ سَراةٌ وَخِساسُ
نَلبَسُ الدُنيا وَلَكِن     مُتعَةٌ ذاكَ اللِباسُ
يا أَبا حَفصٍ وَما ساواكَ  في فَهمٍ إِياسُ
مِن سَنا رَأيِكَ لي في  غَسَقِ الخَطبِ اِقتِباسُ
وَوِدادي لَكَ نَصٌّ      لَم يُخالِفهُ قِياسُ
أَنَ حَيرانٌ وَلِلأَمرِ      وُضوحٌ وَاِلتِباسُ
ما تَرى في مَعشَرٍ حالوا عَنِ العَهدِ وَخاسوا
وَرَأَوني سامِرِيّاً      يُتَّقى مِنهُ المَساسُ
أَذأُبٌ هامَت بِلَحمي   فَاِنتِهاشٌ وَاِنتِهاسُ
كُلُّهُم يَسأَلُ عَن حالي  وَلِلذِئبِ اِعتِساسُ
إِن قَسا الدَهرُ فَلِلماءِ  مِنَ الصَخرِ انبِجاسُ
وَلَئِن أَمسَيتُ مَهبوساً   فَلِلغَيثِ اِحتِباسُ
يَلبُدُ الوَردُ السَبَنتى    وَلَهُ بَعدُ اِفتِراسُ
فَتَأَمَّل كَيفَ يَغشى   مُقلَةَ المَجدِ النُعاسُ
وَيُفَتُّ المِسكُ في التُربِ  فَيوطا وَيُداسُ
لا يَكُن عَهدُكَ وَرداً     إِنَّ عَهدي لَكَ آسُ
وَأَدِر ذِكرِيَ كَأساً    ما اِمتَطَت كَفَّكَ كاسُ
وَاِغتَنِم صَفوَ اللَيالي  إِنَّما العَيشُ اِختِلاسُ
وَعَسى أَن يَسمَحَ الدَهرُ  فَقَد طالَ الشِماسُ

لقد وضعت القصيدة كاملة ، لتستشعرواْ كل ما جاء فيها ، لتعيشواْ معاناته في آن، و تتذوقواْ عذوبة البيان فيها في آن آخر، قرأتها عشرات المرات وكل مرة كانت كأنها المرة الأولى، إنها ككنز لا تنفد خيراته و نبع لا يجف ماؤه .

لقد جمع ابن زيدون في رائعته السينية بين المتضادات طباقاً ومقابلةً، وهو ما يشدّني في مثل هذا النوع من الأبيات؛ الذي يجمع بحكمةٍ خليطاً من تناقضاتِ الحياة التي لا تحصى، وما أخبَر الشعراء بها، فنحن نعيش بالتماهي مع هذه التناقضات لنشكل نوتة في سيمفونية الحياة.

نتأرجح ما بين الأمل واليأس، العز والذلّ، والوضوح والإلتباس، والورد والآس .

لكل بيت حكاية خاصة به وحكمة ترجى منه ، ولكن أكثر الأبيات التي ترافقني وتؤنسني طوال الوقت هو البيت القائل : واغتنم صفو الليالي   إنما العيش اختلاس .

حكيمٌ أنتَ يا ابن زيدون، فما أحوجنا لنصيحة كهذه في هذا الزمان، و ما أكثر ما تضيع ليالينا فراغاً، وما أسرع جري الأيام، وما الحل سوى اختلاس حتى نظفر و لو بالقليل . هل توافقونني الرأي ؟

ما هو أكثر بيت لفت انتباهكم في القصيدة ؟ و ما رأيكم بحكمة ابن زيدون فيها ؟