حمل الشاعر الفيلسوف الأمريكي ديفيد ثورو عام 1845 فأسه ويمم وجهه قبالة بحيرة والدن ليعيش على ضفتها عيشة الناسك المتأمل في محراب الطبيعة. مل الحضارة بأدرانها وراح يبني له بيتاً خشبياً ويشرب من جداول الماء ويضرب أمه الأرض بفأسه ليأكل من ثمرها وما عملته يده – لا الآلة – ويتأمل في الطبيعة جانب الغابات. رجع لنا ثورو بفلسفته في كتاب والدن (أو الحياة في الغابات) وفيه يقول: لم أصادف في حياتي صديقاً صدوقاً مخلصاً لي كالطبيعة وعزلتي." ويقول: بعض الناس تحولوا إلى أدوات لأدواتهم.
أخذ ثورو يدعو للعيش ببساطة واستقلالية وبحكمة وأهاب بالناس أن يفروا من تعقيدات الحضارة وما تفرضها من حياة اقتصادية وتجارية ودعى إلى عناق الطبيعة عن قرب والاتصال بها ونبذ تلك الحضارة المصطنعة بما فيها من مصانع ومعامل ومداخن وآلات تسخر الأنسان لخدمتها.
لم يكن ثورو فقط من رفض حياة المدنية الصاخبة بحضارتها التي تقتلع الأشجار وتغير نظام الطبيعة لأجل جشع الإنسان. بل راح من قبله شعراء البحيرة الإنجليز ذوي التوجه الرومانتيكي وردزورث، وكولريدج، وساوذي ينبذون الثورة الصناعية ويقدسون الطبيعة البكر بكل عناصرها وتأثروا في ذلك بالفيلسوف الفرنسي صاحب فلسفة الرجعة إلى الطبيعة: روسو.
وأني لأتساءل يا أصدقاء: ماذا لو حكم هؤلاء الشعراء الحالمون العالم؟ هل كنا لنرى لعنة التغير المناخي والاحتباس الحراري وما يستتبعه من كوارث طبيعية وفيضانات وحرائق؟
وكما تعلمون أنّ للأفكار أجنحة تطير، فقد تلقف شعرائنا العرب ذلك التوجه الرومانتيكي الحالم تجاه الطبيعة وراح يتغنون بها وينبذوا حياة المدينة. من هؤلاء الشعراء: خليل مطران. دعاه صديقه إلى العودة إلى المدينة حيث الصحبة والأمن والامان بعد أن أقام بالريف أو الصحراء يمارس عزلته فأجابه:
ولوا المدينة وجهكم ودعوني أنا في هواي وعزلتي وجنوني
ثم أخذ يعدد مثالب العيش في المدينة بحضارتها:
عودوا إلى حيث النمائم والأذى والعيش بين وساوس وظنونِ
حيث الرزائل في مرافل عزة حيث الفضائل في غلائل هون
حتى ينتهي إلى إصدار حكمه البات على تلك المدنية المزيفة:
تلك الحضارة لا أحب خلالها وأرى محاسنها شباك فتون
ماذا دهاني في اختباري أهلها من كذب أمالي وصدق عيوني
فهو كاره لصفات تلك لحضارة ويرى أن ما نراه نحن محاسن لها ما هو إلا مصيدة توقعه في المهالك بالضبط كما يتهاوى الفراش على النار يحسبها نورا. فهو حتى لما اختبرها كذب ما رآه بأم عينه من عيوب ومثالب ما كان يتمناه لها من أخلاق حميدة كما يزعمها عشاقها.
والآن يا أصدقاء، هل تحبون العيش في المدينة أم الريف حيث الطبيعة البكر الخلابة؟ ولماذا؟
التعليقات