كانت في الحادية عشرة من عمرها عندما بدأت الحرب
ليان طفلة تحب التفاصيل ورق الشجر الذي تغير لونه
صوت الأحذية على الرصيف المبلل و رائحة الخبز التي تأتي من الفرن في اخر الشارع
كانت تسكن في حي شعبي بسيط حيث البيوت متقاربة و اصوات الضحكات التي تنتقل بين الشرفات كأنها رسائل من زمن بسيط
في تلك الفترة كانت الحياة تتكرر بطريقة محببة
المدرسة صباحا
الغداء العائلي
و قصص الاب في المساء
و في الزاوية الشرقية من الحارة يقع بيتهم البسيط الذي يبدو و كأنه يعانق نفسه
جدرانه سكرية بلون باهت
نوافذه واسعة و كأنها تبتلع ضوء العالم كله في كل صباح
من الداخل كان المكان متواضعا و ناعما و كانت الأرض مفروشة بسجادة بورجندية مطرزة بخيوط بدأت تتفكك من الزوايا
و الاثاث مرتب بطريقة تقول : هنا تسكن ام تعرف كيف ترتب كل شيء
في المنتصف كانت تقف (صوبيا المازوت) البطلة الحقيقية للشتاء
كلما اشتعلت فاحت ريحة الدفء الممزوجة ببقايا فطائر الزعتر
و في كل مساء يجتمعون حولها ليان و اخواتها البنات و يتحدثون عن أحلامهم الطفولية
و كان لدى ليان دفتر تسجل فيه كل لحظات العائلة و كأنها كانت تشعر أن ثمة أمر ما سيحصل و سيبقى هذا الدفتر سيذكرها بالبيت و اجوائه
فكان هذا البيت الصغير يتسع لكل شيء ضحكاتهم أحلامهم و ذلك الدفتر
كانت تلك الليلة أبرد من المعتاد و خيوط الدفء بالكاد تصل إلى زاوية الغرفة حيث وضعت الام فرشة اختهم الصغيرة
استلقت ليان إلى جانب اخواتها البنات يتسامرون
الى أن سُمع صوت دوي مكتوم لكنه غريب
ساد صمت تلقائي
قالت احداهن ما هذا الصوت كأنه انفجار
ردت الثانية إنها مجرد العاب نارية
لكن ليان انتبهت إلى شيء آخر في وجه والدتها كادت تخفيه
فسألتها : ماما هل خفت؟
أجابت الام : لا داعي للخوف أنها مجرد العاب نارية
اقترب الاب و هو يضغط على ازرار هاتفه المغلق دون جدوى
في تلك اللحظة صدح صوت انفجار اقرب من السابق
اهتز زجاج النافذة و بدأ صوت اختهم الطفلة بالبكاء
شعرت ليان أن الطفولة كلها توقفت عند ذلك الصوت
فقد قرعت اجراس الحرب في وطنها
كان الوجع يوميا و النجاة تقاس بالساعة
في اليوم التالي بدا أن المدينة لم تنم
اصوات متقطعة أنباء متضاربة
و جيران بدأوا يختفون دون وداع
كان الليل قد أرخى سدوله و غرق الحي في سكون ثقيل
لا يقطعه الا اصوات الريح بين النوافذ المغلقة و البيوت المهجورة أو المهدمة
و فجأة اخترق هذا الهدوء صوت دوي مدو لاقدام ثقيلة كأن الأرض ترتج من تحتها
و صرير ابواب تخلع بلا رحمة
دخل الجنود المتوحشون البيوت كالعاصفة لا يطرقون بابا و لا يستأذنون كأنهم زوابع سوداء اقتلعت من جحيم لا يعرف الرحمة
كانوا يفتشون كل زاوية يقلبون الاثاث و يبعثرون الغرف
و يطؤون بأقدامهم لعب الاطفال و احلام النساء كأنها لا شيء
كان العسكري اقرب إلى الكابوس يتجسد في هيئة بشر قامته ضخمة و عيناه جامدتان
على رأسه خوذة داكنة تشبه قبة الموت
تلقي ظلا كثيفا فوق وجهه المتجهم
و سترته العسكرية المموهة يتدلى منها أحزمة مليئة بالذخيرة
تصدر عند تحركه صوت خشخشة معدنية كأنها سلاسل تجر خلفها الرهبة
حذاؤه كان كالصخر كل خطوة يخطوها ترج من تحته الأرض كأنها تنذر بيوم اسود
النساء كن يتجمعن في الزاوية يضممن أطفالهن إلى صدورهن المرتجفة و اعينهن تفيض بخوف مكتوم خوف لا يصرخ به بل يسكن في النظرات و الكلمات المبتورة
الاطفال يحدقون بالجنود مرعوبين و كأنهم رأوا وحوشا خرجت من كتب الظلام
كان التفتيش أشبه بذبح صامت لا دم فيه و لكن الأرواح تنتهك و الكرامة تهان على يد اولئك الذين نسوا معنى الإنسانية
و أصبحوا ادوات باردة في يد العنف
لك يكن مجرد اقتحام بل طعنة في قلب الامان و وصمة على جدار كل بيت اختار أن يحتمي بالسكوت
كان البنات ينظرون إلى وجه امهم و ابيهم و كأنهم ينتظرون ذلك القرار الذي لا مفر منه إلا إليه
هذا الجزء الاول اريد ان اعرف الآراء قبل أن أكمل
التعليقات