لطالما ارتبطت المهارة في الوعي البشري بالتميّز الشخصي، وبالجهد الطويل الذي يبذله الإنسان لاكتساب قدرة معينة، سواء كانت يدوية، معرفية، أو إبداعية. كانت المهارة عنوانًا على التخصص، والدرايه، والتراكم الزمني الذي لا يُمكن اختصاره. ولهذا، حافظت بعض المهارات على مكانتها عبر العصور، من الحرف اليدوية، إلى الكتابة والتحليل، وصولًا إلى البرمجة والتصميم في العصر الرقمي.
لكن ظهور الذكاء الاصطناعي، وبخاصة في صورته الحديثة التي تمثّلها النماذج اللغوية التوليدية، قلب هذا المفهوم رأسًا على عقب. فاليوم، يستطيع أي فرد بغض النظر عن تخصصه أن يُنتج نصوصًا، أو يصمّم صورًا، أو يكتب شيفرات برمجية بمستوى مقبول، إن لم يكن احترافيًا، بمساعدة أدوات ذكية تقوم بالكثير من المهام نيابةً عنه. هنا بدأ المفهوم الكلاسيكي للمهارة يتغير؛ لم تعد المهارة فقط هي الإتقان اليدوي أو المعرفي، بل أصبحت القدرة على الاستفادة الذكية من الأدوات، وتوظيف قدراتها، جزءًا جوهريًا من تعريف "الماهر".
تاريخيًا، كانت الفجوة بين من يملك المهارة ومن لا يملكها واضحة ومؤسَّسة على سنوات من التعلم والممارسة. أما اليوم، فقد تقلصت هذه الفجوة بشكل غير مسبوق. فالطالب الذي لم يتلقَّ تدريبًا عميقًا على الكتابة الأكاديمية، أصبح بإمكانه عبر أداة مثل ChatGPT أن يُنتج نصًا متماسكًا ومنسقًا. والمبرمج المبتدئ صار يستطيع بناء تطبيقات بسيطة بمساعدة أدوات الإكمال الذكي. لقد أعاد الذكاء الاصطناعي توزيع المهارات، وبدّل معنى التميّز، فلم يعد مرتبطًا بما "تعرفه" فقط، بل بما "تعرف كيف تطلبه"، وكيف "تتفاعل" معه.
لقد أثّر هذا التغير بوضوح في الحياة اليومية والعملية للناس. ففي مكاتب الأعمال، أصبحت المهارات المطلوبة لا تقتصر على الخبرة في المجال، بل تشمل القدرة على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بكفاءة. وفي التعليم، بدأت مفاهيم "التحصيل" تتغير، لأن الطالب لم يعد مصدره الوحيد هو الكتاب والمعلم، بل أيضًا مساعد ذكي يُشاركه البحث والتفسير. وفي الحياة اليومية، بات استخدام الذكاء الاصطناعي في اتخاذ قرارات بسيطة من اختيار منتج، إلى كتابة رسالة رسمية، إلى تخطيط رحلة أمرًا عاديًا، بل متوقَّعًا.
إننا أمام إعادة تعريف جذرية لفكرة المهارة، لا تُلغي المهارات البشرية، لكنها تدفع بها نحو أفق جديد: مهارة التفكير، والاختيار، والتكامل مع الذكاء الاصطناعي. وفي هذا التحول، تظهر مفارقة عجيبة؛ فالآلة التي جاءت لتسهّل العمل، دفعت الإنسان لأن يطوّر مهارات أعمق مما كان يُطلب منه سابقًا. لم تعد السرعة أو الحفظ أو الدقة صفات كافية، بل أصبح التفكير النقدي، والوعي السياقي، والقدرة على تحليل مخرجات الآلة وتمييز الصحيح من الخاطئ، مهارات أساسية.
التعليقات