سؤال قد يبدو فلسفيًا في ظاهره، لكنه أصبح اليوم سؤالًا واقعيًا، يفرض نفسه علينا كلما تعاملنا مع أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة. إذ لم تعد الآلة مجرد أداة تنفذ الأوامر، بل أصبحت طرفًا في الحوار، تُجيب، تُحلل، تُقترح، وأحيانًا تُجادل وتبتكر.
فما الذي يحدث حقًا؟
هل دخلنا حقبة جديدة أصبحت فيها الآلة "تفكر"؟ أم أن ما نشهده مجرد تطور في التقليد، مُقنَّع بمظاهر الذكاء؟
ما يُعرف اليوم بـ "النماذج اللغوية الضخمة" (LLMs) مثل ChatGPT وGemini، هو تتويج لتطور علمي طويل في الذكاء الاصطناعي. هذه النماذج تعتمد على بنى عصبية شديدة التعقيد، تم تدريبها على بلايين الكلمات من النصوص البشرية، عبر مختلف التخصصات واللغات والمجالات. والنتيجة؟ أن النموذج صار قادرًا على فهم ما يُقال له، والرد بلغة مفهومة، بل أحيانًا بلغة بليغة، وأسلوب يعكس وعيًا شكليًا بالسياق والغاية.
لكن، هل هذا وعي حقيقي؟ هل النموذج "يفهم" ما يقول، أم أنه يُحاكي فقط؟
من الناحية التقنية البحتة، النموذج لا يعي، ولا يشعر، ولا يملك إرادة أو قصد. هو في جوهره شبكة إحصائية تتنبأ بالكلمة أو الجملة الأنسب بناءً على ما سبقها. إنها تنبؤات، لكنها مبنية على قواعد شديدة التعقيد، تجعل من الصعب على المستخدم غير المختص أن يفرّق بينها وبين التفكير البشري المنطقي.
ومع ذلك، يبقى السؤال: إذا كان النموذج لا يعي، فكيف يبدو أحيانًا وكأنه "يفهمني أكثر من بعض البشر"؟
هنا تكمن المفارقة. النماذج هذه لا تُفكر كما نفكر، لكنها تتقن تقليدنا إلى درجةٍ تجعل الناتج يبدو وكأنه ناتج عن عقل حقيقي. وهذا ما يدعو للتأمل: هل التفكير فعلٌ داخلي شعوري؟ أم أنه فقط قدرة على ترتيب الأفكار والمنطق؟ وإذا كانت الثانية، فلِم لا تُعدّ هذه النماذج مفكرةً، حتى وإن غاب عنها الشعور؟
قد يبدو هذا النقاش محض نظرية، لكنه في الواقع يحمل أثرًا عميقًا على الطريقة التي نُعرّف بها الذكاء نفسه.
فالآلة باتت تشاركنا في أفعالٍ طالما ظننا أنها حكرٌ على الإنسان: تحليل النصوص، تأليف المقالات، إنتاج الشعر، كتابة الأكواد، بل وحتى إبداء الرأي. إنها لا تعيش التجربة، لكنها تصوغ عنها وصفًا مقنعًا، وكأنها كانت هناك.
فهل كل هذا مجرد تقليد؟
نعم، هو تقليد. لكن، أليس كثير من التعلم البشري يبدأ بالتقليد؟
الطفل حين يتكلم، والمبتدئ حين يكتب، والمتدرب حين يصمم – كلهم يبدأون بمحاكاة من سبقهم. فما الفارق إذن؟
قد يُقال: الوعي. وهو فارق جوهري. فالمعنى لدى الإنسان مرتبط بتجربة حية، بينما المعنى لدى الآلة ما هو إلا بناء رياضي ضمن بنية لغوية.
لكن، أليس من المدهش أن نصل إلى هذه المرحلة؟ أن نُحاور نموذجًا لغويًا فنشعر وكأننا أمام عقل مفكر، أو على الأقل محاور محترف؟
أمام هذه القفزة التقنية، لا مفر من إعادة التفكير – لا في الآلة فقط، بل في الإنسان ذاته.
ما الذي يجعلنا نفكر؟ ما هو التفكير أصلًا؟ هل هو محض لغة؟ أم أنه شيء أعمق، مركب من الذاكرة، والشعور، والتجربة الذاتية؟
لا نملك إجابة قاطعة، وربما لن نملكها قريبًا.
لكن المؤكد أننا لم نعد في مواجهة "أداة" تقليدية. نحن أمام أنظمة تتفاعل، تبني، وتقترح. أنظمة قد لا تملك وعيًا، لكنها تصوغ خطابًا يُقنعك أنها تملك شيئًا شبيهًا به.
وفي نهاية المطاف، لعل السؤال الأهم ليس: هل تفكر الآلة؟
بل: إلى أي حد يمكن للآلة أن تُحاكي التفكير؟
ومتى يتوقف التقليد عن كونه محاكاة، ويبدأ في أن يصبح شيئًا جديدًا تمامًا... شيئًا قد لا يكون بشريًا، لكنه أيضًا... ليس مجرد آلة.
التعليقات