الطبيب وأخصائي التغذية البريطاني جون يودكين، كاتب كتاب "نقي، أبيض وقاتل" قال يومًا أنّه لو وُجد في مادّة غذائية معشار ما يوجد في السكّر من الأضرار، لحُظر استخدام وتداول هذه المادّة منذ زمن بعيد.

تعرَّض جون يودكين، ونظريته التي تشير لعلاقة السكرّيات وأمراض القلب، لتهميش كبير، فلم يكن يُدعى للمحافل، وكانت أفكاره تُهاجم في البحوث، والأسوأ أنّ منافسيه تمكّنوا من تأمين مراكز لهم في أكثر المعاهد العلمية تطوّرًا، بعبارة أخرى، لقد استحوذوا على المكينات الاعلامية، في فترة السبعينات، لم يودّ الكثير من العلماء أن يكتبوا في علاقة السكريات وأمراض القلب، خوفًا من أن يحصل لهم ما حصل ليودكين.

يودكين كان يدعم نفسه بأبحاث ومنطقية، السكّريات تُهضم في الكبد، وتتحوّل إلى دهون قبل دخولها إلى الدم، أمّا الدهون، فما تناولتَ منها يجعل الكبد يقلّل من تصنيع الدهون داخليًا، فلو أكلت بيضتين، أو خمسة وعشرين، لن يرتفع مستوى الكوليسترول في جسمك بشكل ملحوظ، وهذا ما أثبتته الدراسات بعده بسنوات.

طيّب، لماذا نرى الكوليسترول في الشرايين المُتصلِّبة؟ أليس هو السبب؟ هذا تفسير بسيط، وجسمنا ليسَ وعاءً، تضع فيه ما تضع ولا يتغيّر، جميع المواد التي نتناولها تمرُّ بتحولّات وتفاعلات لا تنتهي.

بحسب يودكين، الناس تعوّدوا على أكل الدهون منذ بدء الخليقة، أمّا الكاربوهيدرات فهي حديثة نسبيًا، يُقدّر اكتشافها واستعمالها بـ 10,000 سنة مضت، والسكّر، ذلك المُنتج الكاربوهيدراتي النقي، الذي استخلصت منه كلّ الألياف والمواد الغذائية، لم يُستعمل إلّا حديثًا، 300 سنة فقط، وهذه غمضةُ عين في تاريخ البشر، فإلى هذا يجب أن تُعزى الأمراض الحديثة، إلى البدعة الجديدة، لا القديم الموروث.

مشكلة يودكين أنّه كتب هذا الكلام في السبعينات، حيث أنّ التيار الأقوى كان تيّار يعتقد أنّ الدهون المُشبّعة هي السبب في الأمراض التي تشيع بين الناس، السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والشرايين، كلمات يودكين لم تؤخذ بنحو جدِّي، بل تعرّضت للتهكّم من قبل منافسيه، خصوصًا طبيب آخر يُدعى أنسل كيز.

أنسل كيز كان داعمًا قويًا لنظرية الدهون المشبّعة، وتمكّن في عام 1970 من اجراء دراسة كبيرة، على 12770 شخص، وكان المتطوّعون من ايطاليا ويوغسلافيا، فنلندا وهولندا واليابان وأمريكا، ونشر بحثه المؤلَّف من 211 صفحة يوضّح فيه أنَّ الدهون أضرُّ على القلب وأوعيته من غيرها.

دراسة أنسل كيز حفّتها العيوب من كلّ جانب، فهو اختار سبع دول من دون توضيح سبب تفضيله هذه الدول على بعضها، ومما يزيد الشكّ أنّه اختار 5 دول من أوروبا، ولم يختر فرنسا أو ألمانيا الغربية، أكثر الدول الأوروبية استهلاكًا للدهون المشبّعة، وأقلّهم تعرّضًا لأمراض القلب، لم تخلُ دراسة كيز من التحيّز.

وموضوع اثبات عامل واحد مؤثِّر، كما يعرف من يملك أقل فكرة عن طبّ المجتمع، أمر صعب جدًا في الأمراض المُزمنة، لأنَّ العوامل التي تتداخل فيها كثيرة، فكيف ستُثبت أنّ المُشارك في الدراسة كانت له مشكلة قلبية بسبب تناوله الدهون، لا بسبب السكريات أو جيناته أو نمط حياته بشكل عام؟ في الواقع عاد عالم ايطالي بعد سنوات ليتحقّق من بيانات دراسة كيز، ووجد أنَّ أكثر ما ارتبطَ بأمراض القلب، هي السكريات في تلك الدراسة، لا الدهون.

والأمراض المُزمنة لو أُريدَ أن يُجرى عليها دراسات جيّدة ومقبولة، فيحتاج أن تُقسِّم الناس إلى فريقين، وتتابع الفريق الذي أعتمدَ على النظام الغذائي ذي الدهون المشبّعة، وفريق آخر لم يعتمد عليها، إلى أن يأتي الوقت الذي يتعرّضون فيه لمشاكل في القلب، وهذا قد يستغرق 10 أو 15 أو 20 سنة، وهذه مدّة غير عملية في كثير من الدراسات.

لكن قُدِّر لكيز أن ينجو بدراسته، وتُعتمد نتائجها في التوصيات الغذائية في ثمانينات القرن الماضي، فعندما نشرت أمريكا دليلها الغذائي الصحّي، وتبعتها بعد ذلك بريطانيا، كانت التحذيرات تُوصي بالتقليل من استهلاك الدهون المشبّعة، وأخذ الناس يُبدلون الدهون في البيض والزبدة، ببدائل من الكاربوهيدرات، سوى أنَّ النتائج لم تكن مُرضية، فالناس لم يزدادوا إلّا سُمنة، ولم تقلّ أمراض القلب بل زادت.

بعد دراسات كثيرة أجريت في العقدين الأخيرين، بدأ التوجّه الآن -ببطئ كثير- نحو نصح الناس بالتقليل من السكرّيات، ولا توجد توصيات حديثة تحذِّر من أكل الدهون المشبّعة، إنما جُلّ التحذيرات من الدهون النباتية المُهدرجة. يبدو أنَّ هذا البطئ الشديد في قلب التوجّهات، من الدهون إلى السكريات، يحمي أصحاب الشأن من أطبّاء التغذية، من لوم الناس وعذلهم.

الحقائق العلمية الجديدة لا تشيع في الناس بسبب انتصار عالم على قرينه في نقاش علمي، فيرى الخاسر النور ويُذعن للحقائق، إنما تشيع عندما يموت هذا القرين، ويأتي جيل جديد صالح لتقبّل هذه المعلومة. ماكس بلانك

وهكذا كان الحال مع يودكين وكيز، حينما مات الطرفان، بقي الصراع صراع الحقيقة لا غير، والحقيقة أبقى.

الدراسات الحديثة أصبحت تُشير للسكّر، وبصورة مستمرّة، بأصابع الاتهّام، وسأضع لكم موضوعًا عربيًا في الهوامش يُشير إلى الدراسات الحديثة في هذا الجانب، ولكن احذروا رعاكم الله، فالناشر يروِّج بين السطور لنظام الكيتو، ومنشورنا لا يروِّج لشيء، سوى الحقيقة!

الموضوع هو شيء من التلخيص لمقال طويل ثري بالمعلومات نُشر على الغارديان، يُمكن الوصول له من هذا الرابط:

وهذا رابط لبعض الدراسات الحديثة في الدهون