لم أكن أبحث عن بطولة، فقط كنت أريد أن أؤدي عملي كما يجب. لكن في أماكن العمل، لا تكفي النوايا الطيبة.
لم أُختر زملائي في الشركة. لم يكن لي رأي في من أجاورهم خلف المكاتب أو من أوجههم في الميدان. العمل يُرمي إلينا كقدر، وكل واحد منا يحاول النجاة بطريقته.
في أولى سنواتي كمهندس أمن صناعي في شركة إنشاءات ضخمة، لم أكن ذاك المحترف. تعثرت كثيرًا، بل ارتكبت أخطاءً جعلتني أرى وجهي في المرآة وأتساءل: هل أنا أهل لهذا المكان؟ لكن شيئًا فشيئًا، ومن فوضى الأوراق والمواقف، تعلمت.
تعلمت أن أكون يقظًا، أن أرى التفاصيل، وأن أكتبها.
أعدّ التقارير الشهرية بنفسي. كنت أسلمها يدًا بيد إلى مدير المشروع، وأطلب توقيعه. بعدها، ورقة أخرى تحدد صلاحيات كل قسم، ثم يتولى سكرتيره إرسال النسخ المعنية. دونت ذلك رقميا في جدل متابعة _مشكلات تتعلق بالسلامة، بالصحة، بالبيئة مع الأخطار المترتبة عنها_
وكلما رصدت خرقًا، طالبت بحلّ وتقديم إثبات، قبل تاريخ محدد. لم أكتفِ بالجلوس خلف شاشة، بل خرجت للميدان.أنا، والتقنيون الذين أُشرف عليهم، كنا نتحرك كخلية نحل.
لكن شيئًا ما لم يكن يتحرك.
التقارير كانت تكبر، والمشكلات تتراكم، حتى العاجل منها ظلّ معلقًا في الهواء..
أرسلت نسخًا من تقاريري إلى القسم الجهوي مع علم صاحب المشروع .
وفي أحد الأيام، وردني بريد إلكتروني عاجل: تفتيش قادم إلى مركز الإمدادات والتخزين.
ابتسمت.
كنت مستعدًا، أو هكذا ظننت.
وقبل أن أبدأ أي استعداد، تواصل معي نائب مدير المشروع. لم يسألني عن التفاصيل. لم يناقش أي بند مما ورد في تقاريري.
بل طلب ببساطة:
"اذهب إلى هناك... وأصلح ما يمكن إصلاحه قبل وصول المفتشين."
لحظة صمت.
هل أبدو لهم كمصلح سري؟ رجل ظلّ يخبّئ فشل الإدارات خلف عرق جبينه؟
لو ذهبت، لخسرت كل ما بنيته مع رفاق العمل. لأصبحت في أعينهم منافقًا، ممثلًا رديئًا يحاول تبييض ما لا يُبيَّض.
لم أذهب. وتركت التفتيش يأخذ مجراه.
جاء المفتشون، ووجدوا ما توقعته وأكثر. مخالفات نائمة في الظل منذ شهور.
كان نائب مدير المشروع حائرًا، ينظر إلي كلما وُجه إليه سؤال.
"لماذا لم تخبرني؟"
ابتسمت. صمتّ تفاديا للاحراج.
طلبت من المفتشين منحنا مهلة قصيرة لإرسال الإجراءات التصحيحية، كي أبدوا مرنا.
غادر المفتشون ، نجونا مؤقتًا... لكن الموقف انكشف.
وحين حاول أن يرميني تحت الحافلة، رددت :
"كل ما وجدوه هنا، موجود في تقاريري الشهرية... بعضها أنت وقعت عليه بنفسك."
ارتبك. حاول التملص:
"التقارير طويلة... لا أستطيع قراءتها كلها!"
أجبته :
"مهمتي أن أرسل التقرير وأقترح الحلول، لا أن أنفّذها بدلًا عن المعنيين."
حينها، تراجع.
و أدرك أنه خسر المواجهة. فأنهى حديثه بابتسامة وقال،
" اننا رجال ميادين لا قراءة يجب أن تضغط عليهم وتتابعهم"
يودّ منّي القيام بمهام إضافية خارج مهامي الأساسية، لتغطية العجز الذي تسبب فيه هو.
هل تعلمون ماذا كان يمكن أن يحدث لي لو أنه ثبت خطئي، لم يكن من النوع الذي يتعلم الدرس. لطالما كان يكبّر الأخطاء الصغيرة، يفتّش عن كبش فداء، ويتفنن في تحميل المسؤولية لمن تحته، لا فوق
في العمل، الذكاء لا يكمن فقط في أداء المهام، بل في فهم النفس البشرية، وحماية نفسك دون أن تفقد احترافيتك. لا تكن متوترًا ولا ساذجًا. كن مرنًا... لكن لا تُفرّط أبدًا في مبادئك.
في بيئات العمل التي يسودها الإهمال أو المجاملة على حساب المهنية، هل تفضّل أن تحمي نفسك بالصمت والتوثيق... أم تواجه المخطئ مهما كان موقعه؟ وأيهما أثمن في نظرك: احترام الزملاء أم احترام المبادئ؟"
التعليقات