عنونت أحلام كتابها الأول "الكتابة في لحظة عُري"
وأنا أدعي أن الكتابة لا تكون إلا بالتعري، أن ننزع القماش الذي نُكفن به نفوسنا قطعة قطعة، أن نزيح المكابرة والتنكر وكل الأمور التي من شأنها أن تحجب صدمة أو اتساخًا ما في ذواتنا أو ذوات المقربين..
وبما أن الكتابة فعل تعري، أروم الحكي عن ماما، عن إعاقتها التي مكثتُ دهرًا ولا أزال أخبئ أمر فقدانها البصر عن الآخرين وربما عن نفسي أيضًا، لأني أتحرج، لأني حزينة، لأني مُنكرة!....
تجلس أمي جوار كاسيت قديم، تقلب بين إذاعات مُختلفة، تسمع وردها القرآني عبر ذات الكاسيت أو باستخدام قلم إلكتروني..
وفي مساحة لا تتعدى الأمتار الستة ربما، وخلال الأعوام الأخيرة قضت غالب أيامها بذات الطريقة..
فقدت ماما بصرها تدريجًا، وذهبت وظيفتها في أوائل عقدها الخامس من عمرها، طبيبة أمراض باطنية كانت، عملت لثلاثة عشر عامًا في السعودية، وكانت لأنها الطبيبة الوحيدة في مركز صحي تقوم بتوليد النساء، لازالت ذكرى بازغةً في عقلي وامرأة مُمدة بساقين مفتوحتين حيث كانت ماما تأخذني معها المشفى أحيانًا..
تزامن رجوعنا النهائي من الخارج، بعجز ماما عن ممارسة الطب، أذكر أنها ذهبت رفقة أبي للتأمين الصحي حيث كان من المفترض أن تعمل وأجرت كشفًا طبيًا، عرفت حين عادوا بأن ما بقي من نظرها بات أقل من أن تمارس به الطب، لكنه كان كافيًا لتصحبنا إلى المدرسة، لتعد وجباتنا، لتحُل لنا المسائل الصعبة، كنا نستخدم أقلام السبورة ونكتب بخط كبير على ورقٍ أو نرسم الرسمة الهندسية التي نريد منها أن تَحلها، لأنها صارت في تلك الوقت عاجزةً عن قراءة الخط في الكتب المدرسية أو غيرها…
وكعادة غالبية التحولات الكبيرة في حياتنا، والتي على الأغلب لا يُميزها المحيطون، مرت تلك اللحظة القاسمة في عمر ماما، دون أن نلحظ؛ ربما لأننا -أنا وشقيقتي- كنا صغارًا، أصغر من أن نميز، وربما لأن الأمر كان تدريجيًا فقد ظللت لأعوام طويلة بعدها عاجزة عن تصور أن ماما صارت لا تميز إلا الضوء فقط، لكني الآن أكاد أُجزم أن ماما كانت تنغمس طوال اليوم في "شغل البيت" و مذاكرتنا وحين تضع رأسها ليلًا، تأسى على الأمس القريب، وتلمح صورتها بمعطفها الأبيض، والسماعة التي تستقر دومًا حول عنقها!
لكنني كنت شاهدة على تحولات أمي، حين بدأت أعي، على أتفه الأمور كانت تردد "ربنا ياخدني انا مبقليش لازمة"، كنت أتشاجر معها وأصرخ، رغم أنها كانت تعافر وهي تتلمس الضوء الأخير في مقلتيها وهو ينطفىء!
في مرحلتي الثانوية، انغمست ماما تمامًا في حفظ القرآن، التحقت بمدرسة تحفيظ، من بعد العصر وحتى المغرب، كانت تخرج وحدها وعلى ناصية الشارع تنتظر الباص الذي يُقلها تروح وتعود، رغم أنها بالكاد ترى شبح الأشياء، لكني لم أتبين ذلك، وحتى أن أصحبها حتى مقدمة الشارع وانتظرها حال عودتها لم أفعله!!
لم أكن أفعل ذلك، لأني على الأغلب لم أكترث، لأني كنت أتعامل معها كماما التي تحضر الطعام، تكوي ملابسي، تشرح لي أحياناً ما لا أفهمه، ألأني لا أراها، لكني.. أحبها.. أقسم أني كنت أحبها ساعتئذ.. دومًا ما كنت أحبها..
كيف أحبها ولا أراها، لا أسألها عن سير حفظها، لا أسمع حديثها، لا يجول في عقلي أن أصحبها إلى ناصية الشارع!
ربما لأنها انزوت، ما عادت تطلب شيئا، تلاشت تدريجًا..
كانت تضع لمبة قوية في مشترك أمامها وتضع مصحفًا كبيرًا إلى جواره، حتى تتبين الكلمات في المصحف، وتعكف ساعة واثنتين وثلاث، تبذل لتتبين الحروف وتكرر كثيرًا حتى تحفظ
كانت تفعل ذات الأمر في المطبخ، تضع تلك اللمبة ذات الضوء الساطع في فيشة فوق الرخامة تُنهي على ضوئها مهام المطبخ، ونادرًا ما كانت تطلب مساعدة…
الذنب ينهشني، يمددني أمامها كجثة ويغرس مشرطه وإبره فيّ، لأنه ما فتأ وأنا أطالعها، ولا أطالعها، حين أخلو بنفسي ولا أخلو، يرص كل الإهمال الذي مارسته عن عمد ساعة وعن جهالة ساعة، وعن غضب ونقمة كثيرًا!!
التعليقات